في صباح بارد وفي اجواء رومانسية عابقة برائحة "الكاز"، كان "عقيل" يرتدي فوتيكه الكاكي، ويشمر عن ساعديه، لاجراء صيانة عامة في منزله على مشارف قرية "دابوق"، بدأها بإفراغ ماتبقى من كاز في صوبة "الفوجيكا" الحمراء القانية، ووضعه في زجاجة ماء صحة "فارغة"..في تلك الاثناء دخلت زوجته عليه في المطبخ وصرخت من هول ماشاهدت: ولك انهبلت ياعقيل..بدك تحرق حالك!..الحقوني!..
"عقيل" ضبط اعصابه، ونظر اليها بإزدراء وسخرية وقال: اقلبي وجهك ياحرمه.. قاعد بغير "فتيلة" الصوبه يا "مطقطقه"!..
تنهد "عقيل" مطولا و"صفن" وهو يبتسم على مضض من كلام زوجته، وقال في قرارة نفسه: ليكون انا بدي اصير مثل التونسي "البوعزيزي" ويقولوا عني "البوعقيلي"...لكنه اخذ يفكر بذلك مطولا وركبت الفكرة في رأسه، وهو يتذكر قصة "القروي الجنوبي" الذي عاد الى منزله في القرية، وقد خيم الحزن والبؤس على افراد عائلته، وعندما استفسر عن سبب ذلك، ابلغوه ان "العنزة الشامية" التي لديهم قد ماتت!..والتي بالطبع تعتاش عائلته من خيرها..فوكل امره لله وحملها الى الطبيب البيطري، الذي وفور ان شاهد القروي يحمل العنزة على كتفه قال له: شو بتتخوث..ليش جايبها معك!..ما هي ميته!..فرد القروي بهدوء: بعرف.. بس بدي "تشرحها" لمعرفة سبب الوفاة؟..
استجاب الطبيب لذلك، وادخلها الى غرفة خاصة في عيادته، وخرج بعد ذلك وقد ازاح الكمامة الطبية عن فمه وقال: ان سبب الوفاة "جلطه"!..وعلى اثر ذلك اخذ القروي عنزته "المجلوطة"، وعاد الى منزله الذي تخيم عليه اجواء جنائزية، وسجاها على طاولة، وخاطبها اياها بلهجته الجنوبية البسيطة قائلا: اسمعي انا "بسألكي" وانا بجاوب "عنكي"!..
عندكي عيال بقروا في الجامعة، و"ودكي" تعملي ليهم تجسير، وما معاكي قروش!..انا بقول: لا!..
شركة الكهربا قطعت عن بيتكي التيار بسبب تراكم الفواتير!..انا بقول: لا!..
البنك حجز على بيتكي وراتبكي التقاعدي!..انا بقول: لا!..
وعندها استل القروي شبريته من خاصرته واخذ يطعن العنزة الميتة وهو يقول: يلعن حرمكي.. شو اللي جلطكي!...
ابتسم "عقيل" ابتسامة صفراء مثل ابتسامات الوزراء في المؤتمرات الصحفية وهو يتخيل ذلك المشهد، قبل ان يقول ان السخرية هي سخرية الموجوع والمظلوم والمحتاج..هي ابتسامة نابعة من القهر والألم في جميع الاحوال..
فجأة..نظر "عقيل" تجاه زجاجة الكاز ثم تأبطها وخرج من منزله، ليمتطي صهوة اول باص "كوستر" عمومي متوجها الى وسط البلد، وفي الطريق استعرض عقيل شريط حياته وكأنه يقرأ كتاب "سنوات الصبر والرضا" للدكتور خالد الكركي مع فارق التشبيه، كون "عقيل" ولد فقيرا وبقي فقيرا، وعمل حارسا في الحكومة، وبعد التقاعد ظل حارسا ايضا..ولكن على باب "السيفوي" مثلا!..
عموما وصل "الكوستر" بيمن الله ورعايته الى "ارض موقف الباصات"، في ساحة سقف السيل، وتوجه عقيل الى سنتر الساحة، وهو "سوق الحرامية" وقد تحولق حوله جمع غفير من العاطلين عن العمل، وطلب منهم ان يقوموا بإيصال ورقة مقصوصة من دفتر حساب "مربعات" من الدفاتر المدرسية لطفله، وقد كتبها بالدم عند مطلع الفجر وجاء فيها:
"الى دولة الأخ رئيس الوزراء-الدوار الرابع
عواد باع الأرض، والعنزة ماتت، والمصنع انحرق"!..
ونطق عقيل الشهادتين وقال توكلت على الله.. وسكب الكاز على جسده وقبل ان يضرم النار بنفسه قال للجمع الغفير: بس مين عواد؟...
بقلم ..محمود كريشان