يروي
بيدبا الفيلسوف قصة عن أربعة نفر اصطحبوا في طريق واحدة ، أحدهم ابن ملك و
الثاني ابن تاجر و الثالث ابن شريف ذو جمال و الرابع ابن أَكَّار أي أنه
ابن – عامل – ، اجتمعوا في موضع غربة لا يملكون إلا ما عليهم من الثياب و
قد أصابهم ضرر و جهد شديد . فاختلفوا
في أمر الرزق فقال ابن الملك إن القضاء و القدر هما سبب الرزق ، و قال ابن
التاجر بل العقل ، و قال ابن الشريف إن الجمال هو سبب الرزق ، أما
الأكَّار فقال بل هو الاجتهاد في العمل .
و
حينما اقتربوا من مدينة يقال لها مطرون اتفقوا على أن يذهب كل منهم يوما
ليتكسب رزقا لهم بما ذكر من أسباب فبدأ الأكَّار فسأل عن عمل يكتسب منه قوت
أربعة نفر فقيل له الحطب ، فاجتهد فاحتطب و جمع طنا من الحطب فباعه بدرهم و
اشترى به طعاما ، و كتب على باب المدينة :
“ عمل يوم واحد إذا أجهد فيه الرجل بدنه قيمته درهم ” .
. (( الاجتهاد في طلب الرزق ))هذا
هو الدرس الأول من القصة ، فالأكَّار التمس الرزق في دراسة أحوال السوق
حسب التعبير المعاصر ، فسأل عن أكثر الأشياء ندرة و أكثرها طلبا من الناس
فسعى للبحث عنه ، ثم قام بالعمل و أجهد نفسه حتى يحصل على طلبه .
و
اجتهاده في طلب الرزق يعد من كياسته و حكمته ، فالتماس الرزق يكون بالسعي
في تحصيله بالأسباب المقدرة له كل حسب علمه و طاقته و جهده أي بما لديه من
مؤهلات ، سواء بالعمل الزراعي أو التجاري أو الصناعي أو اليدوي أو حتى من
خلال الوظيفة الإدارية ، المهم هو إعلاء قيمة السعي في طلب الرزق تطبيقا
لقول الله تعالى : “ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ ”
(( رزق بالصدفة )) . و
في اليوم التالي انطلق ابن الشريف ليأتي المدينة ، ففكر في نفسه و قال :
أنا لست أحسن عملا ، فما يدخلني المدينة ؟ ثم استحيى أن يرجع إلى أصحابه
بغير طعام ، و همّ بمفارقتهم فأسند ظهره إلى شجرة عظيمة ، فغلبه النوم فنام
.. فمر به رسام فرأى جماله فرسم صورته و منحه مائة درهم ، فكتب على باب
المدينة :
- جمال يوم واحد يساوي مائة درهم -و
هنا تلعب الصدفة وحدها دورا في جلب الرزق مع هذا الرجل الذي لا يحسن عملا و
لا يجهد نفسه ، و كأننا أمام نموذج يتكرر في عالمنا المعاصر من أشخاص يساق
لهم الرزق دون اجتهاد كاختبار و ابتلاء لنا ؛ حيث نصادف العديد من الناس
الذين ولدوا و في أفواههم ملعقة من ذهب ورثوا مالا عن ذويهم دون بذل جهد
منهم أو نجد أناسا يلعب معهم الحظ دورا في ثرائهم فنعتقد أن الأمور تجري
بالحظ أو بالصدفة أو أن المواصفات الشكلية وحدها هي سبب الرزق ، و لكن هذا
الرزق هو عرض مؤقت ، فالجمال لا يلبث أن يزول ، و التجربة لا تلبث أن تكشف
الشخص المفتقر للمهارات و الاجتهاد ، فلا ينبغي الالتفات عن الاجتهاد إلى
الحظ و الصدفة أو التركيز على المظهر بدل الجوهر لمن أراد رزقا دائما .
(( العقل و الحيلة )) تستكمل
القصة البحث في أسباب الرزق ؛ حيث ينطلق ابن التاجر ذو العقل و الذكاء في
اليوم الثالث فيبصر سفينة على الساحل محملة بالبضائع و يسمع من تجار
المدينة خطتهم في مقاطعة الشراء ذلك اليوم حتى تكسد بضاعة أصحاب السفينة
فيعرضونها على التجار بسعر أرخص فيذهب هو لأصحاب السفينة و يتفق معهم على
الشراء بأجل ، مظهرا أنه سيذهب بالبضائع لمدينة أخرى فلما سمع التجار بذلك
ساوموه على الثمن و زادوه ألف درهم على الثمن الذي اتفق عليه مع أصحاب
السفينة فكتب على باب المدينة :
- عقل يوم واحد ثمنه ألف درهم - .
و
هنا لعبت الحيلة و الدهاء دورهما في جلب الرزق ، و كذلك التاجر المحترف هو
من يتعرف على قواعد إدارة السوق و يحسن استغلال الظروف و يتحين الفرص , مع
الأخذ في الاعتبار أن الذكاء ليس الطريق الوحيد للرزق ، فكثيرا ما رأينا
أذكياء يعانون شظف العيش لعدم اجتهادهم أو استثمار طاقتهم أو قلة سعيهم ، و
ربما يتفوق الأقل في الذكاء عليهم في الثراء لحسن استغلالهم لمهاراتهم و
امكانياتهم . فالفقر ليس سببه
الغباء و الذكاء ليس سبب الغنى “ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ”
(( القضاء و القدر ))و
في اليوم الرابع كان دور ابن الملك الذي يعتقد أن الرزق كله بالقضاء و
القدر فوقف على باب المدينة و تصادف في هذا اليوم موت ملك المدينة و لم يجد
أهلها من يخلف ملكهم فلعب القدر دورا في اختيار أهل المدينة لهذا الشاب
ليملكوه عليهم بعد أن عرفوا أنه ابن ملك ، و أن أخيه سلب منه ملكه فخرج
هاربا من بطشه ، و أثناء مراسم تتويجه طاف المدينة و رأى على بابها
العبارات التي كتبها أصحابه فكتب تحتها
“ إن الاجتهاد و الجمال و العقل و ما أصاب الرجل في الدنيا من خير أو شر إنما هو بقضاء و قدر من الله – عزّ و جل - ،
و قد ازددت في ذلك اعتبارا بما ساق الله إلي من الكرامة و الخير ” .
قد
يتشابه ما حدث لابن الملك مع ابن الشريف في كونه مصادفة لا بالعقل و لا
بالاجتهاد و لكن ما ذكره أحد الرعية في المدينة لابن الملك ينفي ذلك ؛ حيث
كان يعرف والده معرفة جيدة و يعرف عن الفتى علمه و عقله فقال له ” الذي ساق
الله إليك من المُلكِ و الكرامة كنت أهلا له ، لما قسم الله تعالى لك من
العقل و الرأي ” ، و أكد له أن ذلك لا يتعارض مع كون الرزق كله بقدر الله
فأسعد الناس في الدنيا و الآخرة من رزقه الله رأيا و عقلا .
فالإيمان
بالقضاء و القدر لا يغني وحده عن طلب الرزق فقد مرَّ سفيان الثوري ببعض
الناس و هم جلوس بالمسجد الحرام فيقول : ما يجلسكم ؟ قالوا : فما نصنع ؟
قال : اطلبوا من فضل الله و لا تكونوا عيالا على المسلمين .
و
هو نفس ما ذكره الفاروق عمر حين قال : ( لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ، و
يقول : اللهم ارزقني و قد علم أن السماء لا تمطر ذهبا و لا فضة ) .
(( إسناد الأمور لأهلها ))أما
الدرس الأكبر الذي تقدمه القصة فيتمثل في مبدأ إداري هام ، و هو إسناد
الأمور لأهلها ، و تولية الأكفأ ، و هذا ما فعله ابن الملك بعد توليه الحكم
؛ حيث أرسل إلى أصحابه الذين كان معهم فأحضرهم فأشرك صاحب العقل مع
الوزراء ، و ضمّ صاحب الاجتهاد إلى أصحاب الزرع ، و أمر لصاحب الجمال بمالٍ
كثير ثم نفاه كي لا يفتتن به .
فقد
درس جيدا مؤهلات كل منهم ، و أسند إليه مهام تتفق مع إمكاناته و مهاراته
وهو ما يعرف بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، و هو إن دل على شيء
فإنما يدل عن علم و عقل و حكمة ابن الملك ، و أن اعتقاده نفسه في أن الرزق
بيد الله و قدره هو أيضا من حسن الإدراك و التوكل على الله مع الأخذ
بالأسباب .
لكن
يبقى مع هذا أن القصة جعلت الاجتهاد في طلب الرزق في المنزلة الأدنى ، و
هو أمر لا يمكن تبريره إلا إذا فهمنا محاولة ابن – الأكَّار – العامل على
أنه سعي لطلب رزق الكفاف دون اجتهاد في بلوغ أسباب الرزق ، و كأن الإنسان
عليه أن ينظر للأبعد و يحسن استثمار طاقاته المستقبلية بشكل إيجابي ، لا أن
يركز على قوت يومه فقط ، و أن يسعى للأفضل و يخطط لمستقبله و مستقبل
أبنائه – إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس – .