الوجه الذي ألهم ألف لوحة وقصيدة
عندما تُمعِن النظر في العديد من لوحات رسّام عصر النهضة الايطالي
ساندرو بوتيتشيللي، لا بدّ وأن يلفت انتباهك هذا الظهور المتكرّر لامرأة
شابّة ذات ملامح جميلة وآسرة.
وجه تلك المرأة هو سمة ثابتة في معظم لوحات بوتيتشيللي. وقد أصبح مع مرور الوقت وجها مألوفا لمحبّي الفنّ في جميع أنحاء العالم.
اسمها سيمونيتا فيسبوتشي. وكانت هي الموديل التي اختارها بوتيتشيللي للوحاته الأكثر شهرة وعلى رأسها لوحته الايقونية مولد فينوس.
والحقيقة انه لا يوجد سوى القليل من المعلومات حول حياة سيمونيتا
المبكّرة. لكن يُعتقد أنها ولدت في جنوا، بينما يذهب آخرون إلى القول إنها
قدمت من بلدة بورتوفينيري في ليغوريا التي يُفترض أنها مسقط رأس إلهة
الجمال فينوس.
بعد وقت قصير من وصولها إلى فلورنسا، أصبحت سيمونيتا فيسبوتشي محطّ
اهتمام الشعراء والفنّانين وعلى رأسهم بوتيتشيللي. وتنافس هؤلاء على
استلهامها في إبداعاتهم الفنية.
وعندما بلغت الخامسة عشرة، تزوّجت من ابن عمّ لـ اميريغو فيسبوتشي
المستكشف الايطالي المشهور الذي سُمّيت أمريكا على اسمه. وكانت تربط
بوتيتشيللي علاقة صداقة مع عائلة فيسبوتشي. ومن خلال تلك العلاقة أصبح
مقرّبا أكثر من سيمونيتا. ثم أصبح هاجسه الدائم أن يرسمها.
يقول المؤرّخون أن هذه المرأة كانت أجمل امرأة في فلورنسا في زمانها.
كانت جميلة جدّا لدرجة أن الفنّانين ظلّوا يرسمونها بعد أكثر من عشرين عاما
على وفاتها. وكانت تحيط نفسها بنوع من عبادة الشخصية. وكان أتباعها في
الغالب من الشعراء والموسيقيين والرسّامين الذين لازموها خلال حياتها
واستمرّ افتتانهم بها حتى بعد وفاتها.
كانت سيمونيتا فيسبوتشي موضوعا للعديد من الأعمال الشعرية والفنّية.
فكُتبت عنها الكثير من القصائد ورُسمت لها لوحات لا تُحصى. بل إن صورتها ما
تزال منقوشة إلى اليوم على بعض العملات المعدنية الأوربّية.
الشاعر الايطالي بوليزيانو كتب ذات مرّة أن منزل سيمونيتا كان في منطقة
ليغوريا فوق ساحل البحر. "هناك، ومثل فينوس، ولدت من بين أمواج البحر.
كان الكثيرون يعتبرونها تجسيدا خالصا للجمال المثالي كما فهمه رسّامو
عصر النهضة الايطالي ومن ضمنهم بوتيتشيللي الذي كان يعتقد أن الجمال
الخارجي يعكس الجمال الداخلي أو جمال الروح. وقد درج الرسّام على وصفها
بأنها "المرأة التي لا نظير لها".
كان بوتيتشيللي يرسم سيمونيتا بعينين بنّيتين وبشرة بيضاء وعنق طويل
وشعر مذهّب وملامح تبدو حزينة بعض الشيء. وهي لم تكن "فينوس" بوتيتشيللي
فحسب. بل لقد رسمها الفنّان بييرو دي كوزيمو الذي أعار ملامحها لـ
كليوباترا وصوّرها والأفاعي تلتفّ حول عنقها. توفّيت سيمونيتا بعد عام واحد
من زواجها، أي ليلة السادس والعشرين من أبريل عام 1476 جرّاء إصابتها بمرض
السلّ الرئوي. وكان عمرها وقت وفاتها لا يتجاوز الثانية والعشرين.
ويوم موتها خرجت فلورنسا بأسرها في جنازتها. ورافق الآلاف من الناس
نعشها إلى حيث دُفنت في باحة إحدى الكنائس. وأثناء الجنازة كُشف عن وجهها
كي يراه الناس. وقيل إن وجهها في لحظات الموت كان أكثر جمالا منه في أثناء
حياتها.
وفي عام 1485، أي بعد تسع سنوات من وفاتها، أتمّ بوتيتشيللي رسم لوحته
مولد فينوس التي تأخذ فيها الشخصية الرئيسية ملامح سيمونيتا. واستمرّ
بوتيتشيللي يرسم صورتها في لوحاته طوال الثلاثين عاما التي تلت رحيلها.
ويقال انه كان واقعا في حبّها بدليل انه لم يتزوّج أبدا. وقبيل وفاته
أوصى بأن يُدفن إلى جوار ضريحها. وقد تحقّق له ما أراد عندما ووري جثمانه
الثرى بالقرب من ضريحها في إحدى كنائس فلورنسا الكبيرة.