قال الرسول (ص): "أفضل الناس كل مخموم القلب صدوق اللسان".
قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟
قال: "التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد".
﴿إلاّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء/ 89).
إنّ سلامة القلب هي أفضل طريق إلى الجنة، وهي مرتبة عالية من الأخلاق الرفيعة والمناقب النبيلة، التي لا ينالها العبد إلا بجهاد نفسه وتعهدها بالترويض والتدريب فلا يدع في قلبه ذرة من شرك أو نفاق، ولا يترك فيه حقداً ولا غلاً ولا حسداً، فيسلم بذلك قلبه وتنقى سريرته. وفي توضيح مفهوم سلامة القلب، وسبل بلوغها، يتحدث الدكتور إبراهيم الجنابي، الواعظ الديني والباحث في العلوم الإسلامية. الذي يستهل حديثه موضحاً أنّ الإسلام حث على الإهتمام بالقلب أيما إهتمام، وحكم بالفوز يوم القيامة لمن جاء بقلب سليم ولمن جاء بقلب منيب، وقد ورد ذلك واضحاً في نصوص القرآن الكريم. يقول الله تعالى على لسان أبي الأنبياء الخليل إبراهيم (ع) في (سورة الشعراء الآيات من 87-90): ﴿وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾، فحكم أنّه لا ينفع الإنسان يوم القيامة ماله مهما كثَر، ولا أبناؤه وإن كثروا، وأنّ النفع الحقيقي إنما يأتيه من سلامة قلبه.
ويقول تعالى في معرض الكلام عن أهوال يوم القيامة في (سورة ق الآيات من 31-35): ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾، فتبيَّن من خلال الآيات أهمية صلاح القلب وإنابته لربه، وأنّه هو السبب في نجاة صاحبه يوم القيامة وفي دخوله الجنة.
ويقول تعالى في معرض الكلام عن الإعتبار والتفكر وذلك في (سورة الحج الآيتان 45 و46): ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، فتبين أنّ العمى الحقيقي ليس عمى البصر، بل هو عمى القلب حين لا يبصر الحقيقة ولا يهتدي إليها ويعرض عن الدلائل الواضحة البينة التي نصبها الله تعالى أمامه ليأخذ منها العبرة والعظة في دينه ودنياه.
ويقول تعالى في معرض كلامه عن حال المعرضين عن الهدى، وكيف تبلدت أحاسيسهم ومشاعرهم فصاروا كالبهائم العجماء بل أشر منها، وذلك في (سورة الأعراف الآية 179): ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.
وفي السنة النبوية المطهرة جاء التأكيد على صلاح القلب وأنّه الأساس في صلاح حال الإنسان، يقول رسول الله (ص): "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
- كيف تتحقق سلامة القلب؟
سلامة القلب وصلاحه يتحققان بثلاثة محاور: الأوّل هو سلامة القلب من الشرك ومن النفاق ومن الشبهات التي تشككه في الدين. والثاني هو سلامة القلب من الأمراض كالغل والحسد والتكبر والكراهية والبغضاء والشحناء والأنانية. والثالث هو سلامة القلب من الشهوات والتعلق بالدنيا الفانية التي أهلكت من كان قبلنا.
فأما المحور الأوّل، وهو سلامة القلب من الشرك والنفاق والشبهات التي تشككه في الدين، فلأنّ الشرك بالله تعالى هو أعظم الذنوب على الإطلاق، وهو الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله تعالى لمن مات عليه ولم يتب منه، قال تعالى في (سورة النساء الآية 48): ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾، ويقول تعالى في الآية 116 من السورة ذاتها: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا﴾. فحكم في الآيتين أنّه تعالى لا يغفر الشرك ويغفر ما عداه من الذنوب، ووصف الشرك بالإفتراء العظيم والضلال البعيد.
والمشرك مُحرم عليه دخول الجنة، وممنوع من ذوق نعيمها، قال تعالى على لسان نبيه عيسى (ع) في (الآية 72 من سورة المائدة): ﴿.. وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾، وقال تعالى على لسان أهل الجنة في (سورة الأعراف الآية 50): ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.
ولهذا فإنّ الله تعالى بعث جميع الأنبياء (ع) بالدعوة إلى عبادته وتوحيده ونبذ عبادة الأوثان. قال تعالى مخبراً عن هذه الحقيقة في (سورة النحل الآية 36): ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، وقال تعالى في (سورة الأنبياء الآية 25): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾.
ومعنى الشرك أن يعبد مع الله غيره ويعظم ذلك المعبود كتعظيمه لله أو أكثر، فمن المشركين مَن يعبد الكواكب، ومنهم مَن يعبد الأصنام، ومنهم مَن يعبد هواه، ومنهم مَن يعبد البشر. وكل هذه الأفعال باطلة بينة البطلان، فلا يستحق أحد أن يُعبد إلا الله عزّ وجلّ، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، أي: معبود بحق إلا الله.
وأما النفاق فهو من أعظم الذنوب وأكبر الآثام، لأنّ المنافق يتظاهر بالإيمان ويبطن في قلبه الكفر، فهو يحاول خداع أهل الإيمان ولكنه في الحقيقة لا يخدع إلا نفسه. ولهذا فقد توعد الله تعالى المنافقين بالدرك الأسفل من النار، وهو أشدها حرارة وأعظمها عذاباً.
وأمّا الشكوك والشبهات فهي دليل على عدم تمكن الإيمان من قلب صاحبها، ولهذا يجب عليه طرد تلك الوساوس والشبهات، وأن يجدد إيمانه بربه كلما طرأ شيء من الشكوك والشبهات، وينبغي له الرجوع إلى العلماء الربانيين ليزيلوا بنور العلم ظلام الشبهات حتى يكون المؤمن على نور من ربه وهدى.
وأمّا المحور الثاني وهو سلامة القلب من الأمراض المعنوية كالحسد والغل والبغضاء والأنانية والكراهية وغيرها. فلأن هذه الأمراض في حقيقتها إنّما تتمكن من ضعيف الإيمان الذي لم يتمكن من المعرفة الصحيحة التامة، فقد يعرف شيئاً من دينه ويجهل أضعافاً مضاعفة. وإلا فلم يحسد الإنسان يا ترى، إلا إذا كان قليل الإيمان بالله؟ ولم يدخل الغل إلى قلبه، إلا إذا كان ضعيف اليقين بربه؟ ولم يكون أنانياً، إلا إذا لم يعرف أن كل شيء بيد الله؟ ولم يكره الناس، إلا إذا لم يتحقق أنهم خلق الله؟ ولماذا يغتر بما في يده، ما لم يوقن أنّه لا يدوم له وأنّ الله يدخر له خيراً منه في الجنة إن كان مؤمناً تقياً؟
أمّا المحور الثالث، وهو تعلق القلب بالشهوات والدنيا الفانية، لأنّ الشهوات إنما وجدت في الدنيا ليأخذ منها المؤمن ما أحل الله له منها ويتنزه عما حرم الله عليه منها، ولهذا لا نجد شهوة تكون سبباً في إغواء الناس إلا وقد وجد من الشهوة الحلال ما هو أفضل منها.
فشهوة النساء، التي هي أعظم البلاء وأشدها خطراً وفتكاً بالناس، إنما حرم الله على الناس منها ما يضرهم. فحرم الزنا، لكونه سبباً في إختلاط الأنساب وتنازع الناس، فيكون سبباً في عدم الإستقرار النفسي والأسري والمجتمعي. ولهذا لا تجد مجتمعاً تشيع فيه الفواحش والعلاقات المحرمة إلا وابتلي بالأمراض النفسية والشقاء الأسري والبلاء المجتمعي. وفي المقابل أباح لهم الزواج الذي تُنال به اللذة الحلال، ويحصل به الإستقرار النفسي والأسري والمجتمعي.
وكذا شهوة المال التي هي من أعظم الفتن التي يتخبط فيها الناس، فيرتكبون المحرمات ويتجاوزون الحدود من أجل الوصول إليه، فكم من قاتل وسارق ومختلس وغشاش كان همهم الوحيد الوصول إلى المال. وكذا غيرهم كثير. فحرّم الله تعالى على المسلم كسب المال الحرام، وأباح له المكاسب الحلال وهي أكثر وأطيب من المكاسب المحرمة.
وقد جاء النص القرآني معبراً عن تعلق الناس بهذه الشهوات في قوله تعالى في (سورة آل عمران الآيتان 14 و15): ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، فوعدهم بما هو خير منها إن هم أعرضوا عن حرامها واكتفوا بحلالها.
ومن الشهوات شهوة العلو على الناس والإرتفاع فوقهم وحب التصدر في كل شيء وهي شهوة خفية قد لا ينتبه إليها كثير من الناس، فينبغي على المسلم المخلص ألا يستصغر أحداً من المسلمين، بل يعاملهم بالمحبة والإحترام، فيجعل كبيرهم أباً وأوسطهم أخاً وأصغرهم بنا.
- من فوائد سلامة الصدر:
سلامة الصدر ترفع الإنسان عند ربه تعالى وتعلي مكانته يوم القيامة. فعن أنس بن مالك أنّه قال: كنا جلوساً مع رسول الله (ص)، فقال: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة"، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال. فلما كان الغد قال النبي (ص) مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي (ص) تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص، فقد إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم. قال أنس: وكان عبدالله يُحَدث أنّه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنّه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله عزّ وجلّ وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليالٍ وكدت أحتقر عمله، قلت، يا عبدالله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله (ص) يقول لك ثلاث مرار يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فاقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فمال الذي بلغ بك ما قار رسول الله (ص)؟ فقال: ما هو إلا ما رأيتز قال: فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبدالله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق. فهذا الرجل الأنصاري إنما ارتفع على غيره بسلامة صدره من الغش والحسد، فبشره النبي (ص) بدخول الجنة ثلاث مرات.
ومن وصايا الصالحين قولهم: كن طاهر القلب نقي الجسد من الذنوب والخطايا، نقي اليدين من المظالم، سليم القلب من الغش والمكر والخيانة خالي البطن من الحرام، فإنّه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت. كف يصرك عن الناس، ولا تمشين بغير حاجة. ذكره في حلية الأولياء.
ومن فوائد سلامة القلب: اليقين بالله تعالى، والثقة المطلقة به جل جلاله، والقرب منه تعالى في كل الأحوال، والفوز بالجنة ودار النعيم. ومن فوائدها أيضاً الطمأنينة والراحة والسكون، ومحبة الخلق والسعي في نفعهم والفوز بمحبة الآخرين وثقتهم، فضلاً عن السعادة الغامرة في كل تفاصيل الحياة، والإستقرار العائلي والمجتمعي، وخلو المجتمع من الظواهر السلبية الناتجة عن الحقد والكراهية والحسد
............
ربي ساّمِحني عِندَمَاّ أَحزَن عَلّى شَيء أَرَدَتَـُه
وَ لَم تَكتُبُه لِي....