أنقذوا محمود درويش
عن العدوان الثلاثي، ومسلسل "في حضرة الغياب...
تعرّض محمود درويش لعدوان ثلاثي شنه، مع سابق إصرار وترّصد، ممثل رديء، وسيناريست متوسط الكفاءة في أفضل الأحوال، ومخرج شاطر. لا أعتقد أن ثمة كلمة، وبقدر ما يتعلّق الأمر بمسلسل اسمه "في حضرة الغياب"، توجز ما حدث أبلغ من العدوان. قبل الاستطراد فلنعد إلى أفكار أساسية منها:
-1 -
أولا، محمود درويش شخصية عامة، وبالتالي فهي ملك للناس بالمعنى الواسع للكلمة، بمن فيهم الممثل، والسيناريست، والمخرج.
ثانياً، هذه الملكية لا تنفي حقيقة إضافية مفادها حق الآخرين في الحكم على كفاءة الممثل، والسيناريست، والمخرج في الاستفادة من هذا الحق.
نحن، إذاً، إزاء حق مزدوج يذهب في اتجاهين. وما دمنا في حقل الأفكار الأساسية فلنقل، أيضاً، إن ممارسة الممثل، والسيناريست، والمخرج، لحق الملكية ينطوي على دلالات مختلفة:
ربما يقرر هؤلاء الاقتراب من عالم الشخصية العامة تصويباً لخطأ شائع، وكشفاً لجوانب ما تزال مجهولة (كما هو الشأن في مسلسل الملك فاروق، مثلاً)، أو خدمة لقضية ما (كما هو شأن الكثير من المسلسلات التاريخية)، أو للترّبح على حساب الشخصية العامة، خاصة إذا كانت من وزن محمود درويش، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
ولا أريد، هنا، اتهام الممثل، والسيناريست، والمخرج بالترّبح، فهذا أمر متروك لمشاهدي المسلسل، ولكنني أملك حق الحكم على المسلسل بالرداءة، وإذا جاز لي إعادة عبارة مشهودة لمحمود درويش، سأقول لقد أصيب محمود درويش بممثل وسيناريست، ومخرج دفعة واحدة. وهذا يحتاج إلى تفسير.
كان من عادة محمود إذا التقى شخصاً لا يطيقه، أو إذا فرض شخص نفسه على جلسة من جلساته، القول: أصبتُ اليوم بفلان. أحياناً يفعل ذلك بطريقة ساخرة، وفي أحيان أخرى بقدر لا يحرص على إخفائه من الغضب. فلان، هذا، في اللغة الدرويشية يشبه الصداع، ونـزلة البرد، والمغص، الذي يصيب بني البشر. ومن المؤسف، أن محمود درويش أصيب بهؤلاء الثلاثة دفعة واحدة، ولم يعد في وضع يمكنه من جلدهم بسياط لسانه.
- 2-
لا بأس. أصيب محمود درويش بممثل رديء، وسيناريست متوسط الكفاءة في أفضل الأحوال، ومخرج شاطر، دفعة واحدة. فلنذهب إلى ما بعد الإصابة، أو بشكل أدق إلى ما يحول دون تكرارها بهذا القدر من الاستخفاف بميراث الشاعر أولا، وذاكرة القرّاء ثانياً. والسؤال الرئيس، هنا، يُصاغ على النحو التالي: كيف نفكِّر في محمود درويش؟
وهذا يعني، سواء كتبنا كتاباً أو سيناريو، أم مثلنا فيلماً أو مسرحية، أو عقدنا مؤتمراً في النقد، تعيين وتعريف وتسمية محمود درويش. ونقطة البدء، هنا، أن التعيين والتعريف والتسمية أشياء لا يمكن تحقيقها خارج النص الدرويشي نفسه. بمعنى آخر: نفكِّر في محمود درويش من داخل النص الدرويشي لا من خارجه. فما الذي يقوله النص الدرويشي عن صاحبه؟ هذا سؤال أوّل.
وبقدر ما أزعم من معرفة بالنص الدرويشي، فإن النص الدرويشي يتجلى في محاولة استغرقت عمراً لاقتراح والعثور على إجابات محتملة لأسئلة من نوع: لماذا يريد الفلسطيني أن يكون شاعراً، وكيف يكون الفلسطيني شاعراً، وكيف يكون الشاعر فلسطينياً.
في "لاعب النرد"، وهي كشف حساب في ربع الساعة الأخير، يفسِّر محمود درويش السؤالين الأوّل والثاني، ومنذ "ورد أقل" يجازف بأشياء كثيرة لتفسير معنى أن يكون الشاعر فلسطينياً، ويتكلّم في مقابلات لاحقة عن شاعر يولد دفعة واحدة، وآخر يولد على دفعات، ثم يضع نفسه في خانة المولود على دفعات. فكرة الولادة على دفعات، هذه، صياغة مجازية لمعنى أن يكون الشاعر فلسطينياً.
لدى الفلسطيني كل ما يحرّض على كتابة الشعر، وبمزيج من الموهبة والمثابرة يصبح شاعراً، لكن الشاعر يحتاج إلى مغامرة فريدة لكي يصبح فلسطينياً، وهذا يستدعي، ضمن أمور أخرى، رفع فلسطين اليومية، المألوفة والأليفة والجريحة والفصيحة إلى مرتبة الاستعارة الكونية، أي وضعها على سكة التاريخ، والعثور عليها في الحروب الطروادية، وفي تاريخ الهنود الحمر (وهذه مجرد أمثلة).
لا تصبح فلسطين استعارة كونية لمجرد أن شاعراً ذكر طروادة، أو الهنود الحمر، في قصيدة، بل عندما يصبح المخيال طروادياً، ويفلت الهندي الأحمر من تفاصيل حادثة وقعت في زمان ومكان محددين، ليندرج في إطار تاريخ إنساني عام. وعلى ذلك فقس.
- 3-
فلسطين والشعر محوران رئيسان في حياته. بهذه الطريقة نفكِّر في محمود درويش. وهما، أيضاً، محوران رئيسان في حياة آخرين. بيد أن ثمة ما يمّيّزه عن الآخرين. ولا أود الكلام، هنا، عن الموهبة، والالتزام، بل عن السمات الفردية، التي إذا أضيفت إلى الموهبة والالتزام، صنعت شخصاً فريداً ومتفرّداً اسمه محمود درويش.
وماذا عن السمات الفردية؟
وهذه، أيضاً، تحضر في النص الدرويشي، ويمكننا نحن الذين منّت علينا السماء بنعمة الاقتراب من عالم محمود درويش، ومعايشته عن قرب، تشخيصها من خلال مواقف، ومفارقات، وأحداث وأحاديث. بيد أننا لا نملك الحق في مصادرة حق الآخرين (الذين لم يعرفوه عن قرب) في تأويل السمات الفردية، بقدر ما تحضر في النص الدرويشي، بطريقة جديدة.
بهذا المعنى ينفتح النص الدرويشي على الحياة، يكتسب حياة مستقلة، ويجدد نفسه مع كل قراءة جديدة. القراءة لا تنحصر في العمل النقدي، أو المحاكاة والتجديد الشعريين، بل في المعالجة المسرحية والسينمائية، وفي اللوحة التشكيلية، والأداء الصوتي والموسيقي، أيضاً.
والمضحك المبكي أن الذين شنوا عدواناً ثلاثياً على محمود درويش في مسلسل اسمه "في حضرة الغياب"، وهم ممثل رديء، وسيناريست متوّسط الكفاءة في أفضل الأحوال، ومخرج شاطر، لم يحتكموا إلى النص الدرويشي نفسه، أي لم يبحثوا عن محمود درويش في نصه، بل استعاضوا عن البحث بما يشبه الوشاية والنميمة. كيف؟
ثمة أكثر من فرق بين النـزعة العاطفية sentimentalism والنـزعة الرومانسية romanticism، ولا وجود لهذه أو تلك في حياة محمود درويش، وفي نصه. وهذا ما يتضح في بداياته عندما كتب عن عاشق ينتظر في حديقة عامة موعداً لم يتحقق، وفي أواخر أيامه عندما كتب عن الحب باعتباره كذبة صادقة.
وإذا شئنا الاستطراد، قليلاً، فلنقل إن النجاة من النـزعتين العاطفية والرومانسية تفسِّر النجاح في المزج الفريد بين صوتي الفرد والجماعة. كان يقول ما يريد الفلسطينيون قوله لكنهم لا يعثرون على مفرداته، ويقول كلام الشاعر في الحب فلا يجد العاشق الفرد صعوبة في التماهي معه، وغالبا ما كان هؤلاء ينكرون على الشاعر حقه في تأويل مختلف. فلا ينبغي لامرأة بعينها أن تنازع فلسطين الحق في احتكار التأويل.
ولا ينبغي، في نظر العاشق الفرد، لفلسطين مهما سمت وتسامت أن تنازع امرأة بعينها، من لحم ودم، وحدائق عامرة بثمار الجنّة، الحق في احتكار التأويل. في النص الدرويشي ما يمكّن الجماعة والفرد، على حد سواء، من ادعاء الصواب.
- 4-
الممثل الرديء، والسيناريست متوّسط الكفاءة، والمخرج الشاطر، لم يركبوا المركب الصعب، أي لم يبذلوا جهداً يُذكر في تفسير خصوصية هذا التوتر الإبداعي المقيم في النص الدرويشي منذ بداياته وحتى يومه الأخير. وعلى الأرجح، لم تخطر على بالهم أسئلة كهذه. فعيونهم على ثلاثين حلقة، تغطي ثلاثين يوماً مما تعدون، تُباع لفضائيات وتُسلي الصائمين، في شهر أصبح سوق عكاظ جديدة للمنتجين، والممثلين، والمخرجين، ورجال الأعمال، أي للبزنس.
وهل ثمة من موضوع يمكن تمديده وتبديده وتجديده في ثلاثين حلقة أغنى من الحب، وعلى وجه الخصوص إذا ارتبط باسم شخصية عامة ملأت الدنيا وشغلت الناس، وكانت الشخصية العامة نفسها وثيقة الصلة بمسألة ذات حمولة عاطفية وسياسة وبلاغية اسمها فلسطين؟
في سياق كهذا يصطاد الممثل الرديء، والسيناريست متوّسط الكفاءة في أفضل الأحوال، والمخرج الشاطر، أكثر من عصفور بمسلسل واحد. ففي كل ما يتعلّق بالسيرة، وما يتصل بها من ترجمات وتأويلات نصية وسمعية وبصرية، تراود المتلقي غواية استراق النظر إلى حيوات الآخرين، ولهذه الغواية، بحكم ما فيها من طاقات تخييلية ونفسية هائلة، مزايا تسويقية وتجارية (يعني شهرة ومال) لا تغيب عن أعين المنتجين والممثلين والمخرجين في زمن التلفزيون والفضائيات.
يأتي المشاهد إلى حياة الشخصية العامة، سواء جاءت في كتاب أم في مسلسل، مدفوعاً بغواية استراق النظر، لكنه لا يفعل ذلك بطريقة مستقلة تماماً، بل يحتكم إلى ذاكرتين جمعيتين نصية وبصرية (طالما تكلمنا عن الكتب والمسلسلات) وتحكم كلتاهما طريقته في القراءة أو النظر. بمعنى آخر هو لا يقرأ ولا يرى إلا من خلال عدسات ثقافية سائدة.
والأمر نفسه ينطبق على الممثل، والسيناريست، والمخرج. فهؤلاء يحتكمون إلى ذاكرتين جمعيتين نصيّة وبصرية: مرّة باعتبارهم قرّاء، ومرّة باعتبارهم منتجين للذاكرة في تجليات بصرية. وهم، إضافة إلى هذا وذاك، يسهمون في صناعة الذاكرة الجمعية، بقدر ما تسهم هذه في صناعتهم. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالإبداع في ضرب من ضروب الفن أو الأدب، فإن الخروج على الذاكرة الجمعية، أو إعادة النظر فيها، يمثل شرطاً من شروط التفوّق.
بيد أن هذا الشرط يفقد قيمته إذا احتكم هؤلاء إلى منطق السوق، ومبدأ العرض والطلب، عندئذ يُعاد إنتاج الذاكرة الجمعية في صور نمطية تكرّس توقعات القارئ، أو المشاهد، بتقنيات مختلفة من بينها الحشو، والتوابل، والتكرار، وهكذا دواليك في دائرة مغلقة لا تنجو في أغلب الأحيان من الابتذال والإسفاف.
فلنقل ما قلناه بعبارات أخرى، ما فعله الممثل الرديء، والسيناريست متوّسط الكفاءة في أفضل الأحوال، والمخرج الشاطر، أصحاب مسلسل "في حضرة الغياب" هو التالي:
أعادوا إنتاج محمود درويش لا من داخل نصه، بل من ذاكرتين جمعيتين نصية وبصرية، تهيمن عليهما العدسات الثقافية لأفلام ومسلسلات المقاولات، التي تصلح للتسلية والتسويق في رمضان، والتي لن تجني أرباحاً يُعتد بها ما لم تشترها محطات الخليج والسعودية.
فهناك مصدر المال الحقيقي (إنتاجاً وتسويقاً)، وقد كان لهذا المال، وشبكاته المصرية والسورية واللبنانية والفلسطينية، نصيب الأسد في صياغة الذاكرة البصرية على وجه الخصوص، منذ أواسط السبعينيات، وبفضله نشأ ما لا يحصى من المسلسلات التاريخية، والهزلية، والبدوية، والدينية.
وإذا شئنا دفع الفكرة إلى حدها الأقصى فلنقل إن تلك المسلسلات (مع استثناءات قليلة بارزة بطبيعة الحال) كانت جزءاً من عملية تكريس الواقع السائد في العالم العربي: انفصال السياسي عن الثقافي، انفصال الثروة عن القيم، تكريس الأمر الواقع والتراتبية الثقافية والسياسية السائدة، تضخيم الذات القومية، والانهماك في الهامشي والتافه والمبتذل. وهو الواقع الذي تمرّد عليه العرب منذ مطلع العام الحالي.
- 5-
كيف أعاد ممثل رديء، وسيناريست متوّسط الكفاءة في أفضل الأحوال، ومخرج شاطر، إنتاج محمود درويش لا من داخل نصه، بل من ذاكرتين جمعيتين نصية وبصرية؟
فعلوا ذلك من خلال الاحتكام إلى، وإعادة إنتاج وتدوير، صورة نمطية سائدة عن الشاعر (مطلق شاعر) ففي المخيالين الشعبي وإلى حد ما العالِم، يبدو الشاعر شخصاً حالماً في أغلب الأحيان، بوهيمي النـزعة، يفرط في الشراب، وفي المغامرات النسائية، لا يهتم بهندامه، من الصعب توّقع تصرفاته، ويعيش بطريقة تختلف عن غيره من بني البشر، وغالباً ما يفتك بقلوب النساء، أو يبكي مجروحاً من الوجد والشوق والهجران.
هذه هي الصورة النمطية في حالتها الخام، أي القابلة للتشكيل استناداً إلى ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية متغيّرة. فإذا أضفنا إليها حقائق من نوع أن لدينا شاعراً اسمه محمود درويش، اقترنت سيرته الشخصية والإبداعية بصعود الحركة القومية الفلسطينية، وتحوّل إلى شاعر قومي لشعبه، تصبح المشكلة تفصيل صورته بطريقة تخدم الصورة النمطية (السائدة، ذات الطاقة التسويقية العالية)، وإضفاء ما يلزم من التوابل، وما تيسّر من الحقائق الأتوبيوغرافية، بما يكفي لضخ الحياة في الصورة لا في الشاعر نفسه. لحظة التفصيل، هذه، ضرورية، لوضع الصورة على سكة السرد، أي السيناريو.
والواقع أن هذه الصورة النمطية، بالتحديد، التي يحرص شعراء أقل موهبة على تسويقها، وتفتن ربّات البيوت، والأولاد والبنات في مجتمعات مُغلقة، وتثير حسد الكهول، تمثل كل ما لا يشبه محمود درويش الشاعر، والإنسان في حياته اليومية، الخاصة والعامة.
ولا أستمد دليلي، هنا، من معرفة عن قرب تغطي فترة طويلة من الزمن وحسب، بل وأحتكم إلى النص، وإلى مقابلات منشورة كثيرة تكلّم فيها عن جوانب من حياته الشخصية، ومهنته كشاعر، أيضاً.
لا وجود في النص الدرويشي، كما أسلفت، للنـزعتين العاطفية والرومانسية، وكلتاهما وصفة مضمونة لتكريس صور نمطية. خلافاً لذلك، يوحي النص بحرص دائم على تفكيك الصورة النمطية للشاعر والشعر في آن.
في قصيدة مهداة إلى بابلو نيرودا يتكلّم محمود درويش عن الشعراء: "عاديون.. عاديون ما بين القصيدة والقصيدة"، وهم مع هذا وذاك، ما بين القصيدة والقصيدة: "يكرهون الشعر، والفجر المبكّر، والوطن".
وهذا يعني، ضمن أمور أخرى، أن الشاعر في القصيدة، أما خارجها فما من مبرر يرفعه فوق العادي، أو يخرجه من دائرة المألوف. وهذا، أيضاً، ما حاول محمود درويش التدليل عليه في هندامه الأنيق، وانضباطه الاجتماعي والأخلاقي، وكراهيته للنـزوات، والشطحات، والسخرية الدائمة من تظاهر الشعراء بالعيش في لحظة إلهام ينبغي للآخرين أن يغفروا لصاحبها ما فوق العادي وما دونه.
وفي السياق نفسه، لم يتكلّم شاعر عربي حديث عن الشعر كمهنة، وعن صنعة وصناعة الشعر، بقدر ما تكلّم محمود درويش: "لا دور لي في القصيدة، إلا إذا انقطع الوحي، والوحي حظ المهارة إذ تجتهد".
ثمة ما لا يحصى من الحالات التي يبدد فيها المفهوم الرومانسي للشاعر، والصورة النمطية الشائعة عنه. وفي عمله النثري/الشعري الأخير: "في حضرة الغياب" محاولة لتفكيك معنى الشعر نفسه. وهذه المحاولة بدأت في الواقع منذ "سرير الغريبة". ما هو الشعر، ولماذا تصبح هذه العبارة شعراً، وإذا قيلت بطريقة أخرى تفقد حقها بهذا التعريف، وبماذا يتفوّق الشعر على النثر؟
ونأتي إلى موضوع الحب. ولا أريد هنا، سوى الاحتكام إلى النص الدرويشي نفسه. ثمة أكثر من فرق بين الدون جوان والعاشق. الدون جوان لا يحب بل يحب الحب، أما العاشق فيحب لكنه يفشل في تعريف الحب. وقد كان محمود درويش عاشقاً من فلسطين.
لا أكتب هذه الكلمات الآن لتعزيز دلالة وطنية، أو لتعزيز فكرة الالتزام والانتماء لدى محمود درويش، بل للتذكير بحقيقة أن فلسطينيته هي المفتاح الحقيقي لكل شيء آخر، بما في ذلك الحب والنساء. وهذه الفلسطينية مسألة إشكالية لا تُقاس بمسطرة الأبيض والأسود. وربما يفسر تعبير العاشق من فلسطين (وهذا بالمناسبة عنوان ديوان مبكّر كان بدايته الحقيقية) الحضور الإيروتيكي لفلسطين في النص الدرويشي، والتماهي الدائم بينها وبين امرأة من لحم ودم. وفي جميع الأحوال لم ينفق أيامه في مطاردة النساء، أو إقامة علاقات متعددة في وقت واحد.
لم يحب محمود درويش امرأة بعينها، من لحم ودم، حبّا حقيقياً وكاملاً، بل بحث عن هذا البحث ولم يعثر عليه. لكنه كان عفيفاً ومتعففاً، وخيبة الأمل في العثور على الحب، الذي يجب ما قبله، وما من بعده بعد، تحوّلت في نصوصه إلى سخرية أنيقة.
- 6-
سأعيد كل ما قلت بطريقة جديدة، ومن خلال مشهد في مسلسل "في حضرة الغياب". في المشهد يقف الممثل الرديء (الذي تقمّص شخصية محمود درويش) أمام أشخاص يعدون على أصابع اليدين، يجلسون على مصطبة حجرية في مكان ما، ويقرأ مقاطع من كاماسوترا. تجلس بين الحاضرين بنت ترنو إليه بعينين حالمتين.
كم مرّة رأينا هذا المشهد من قبل، في أفلام عبد الحليم وشادية، وفي أفلام فريد الأطرش؟ هذا ما أعنيه بالذاكرة البصرية السائدة. فكل ما فعله الممثل أنه شطب عبد الحليم وشادية وفريد الأطرش من المشهد، وارتدى ما يعتقد بأنه ملابس محمود درويش، ووضع على عينيه نظارة (ذات إطار أسود، ونظارة محمود درويش ذات إطار من العاج بنية اللون).
في مشهد كهذا يتم توليد الصورة النمطية عن الشاعر، باعتباره "حبيّباً"، وعن العلاقة بينه وبين مستهلكي شعره، باعتبار أن أفضل من يمثلهم امرأة عاشقة وساهمة العينين. هنا، تضيع العلاقة الخاصة التي ربطت بين محمود درويش وما لا يحصى من العرب على مدار أربعة عقود، وتُختزل في امرأة دامعة العينين.
المشهد مسروق من عبد الحليم، وفريد الأطرش، ومسلوق لأن محمود درويش كان يقرأ أمام آلاف مؤلفة من بني البشر، ولم يحدث أن قرأ لأشخاص يعدّون على أصابع اليدين يجلسون على مصطبة حجرية. ولو افترضنا، جدلاً، أن المخرج أراد إعادة إنتاج الواقع، ولم يكتف بعيّنة منه، لكان من واجبه الذهاب إلى جرش، في الأردن، حيث قرأ محمود درويش أكثر من مرّة، وإحضار آلاف مؤلفة من بني البشر للجلوس هناك.
هذا يكلّف الكثير من المال. اختزال مشهد مسروق في عيّنة صغيرة، وسلقه بهذه الطريقة، لتوفير المال (مال المُنتج الذي تصادف أنه الممثل الرديء أيضاً) لا يحرّض على عقد مقارنات بين الواقع والخيال وحسب، بل ويبرر اتهام الخيال بالفقر.
وماذا عن لغة الجسد. قبل أن يلعب فريق لكرة القدم مباراة مع فريق آخر، يعرض عليهم المدرّب أشرطة فيديو لمباريات لعبها الفريق الخصم. وقبل أن يمثل أحد دور شخص آخر ينبغي أن يشاهد أشرطة فيديو لإتقان طريقته في الكلام، ولغته الجسدية. ومن الواضح أن الممثل لم يفعل ذلك، وإذا فعل، فيبدو أنه لم ير من محمود درويش سوى سترته الزرقاء، ذات الياقة الواسعة، وخصلة الشعر المنسدلة على جبينه.
قامة الممثل الرديء، أقصر من قامة محمود درويش، بالمعنى الفيزيائي للكلمة، وملامح وجهه كما تبدو في المسلسل أقرب إلى فريد الأطرش منها إلى محمود درويش، ومع هذا وذاك، يتحرّك ببطء شديد كمن يمشي في نومه. أما محمود درويش الواقعي، الحقيقي، فجسمه مشدود بنوابض سريعة الاستجابة، ومشحون بتوتر دائم يتجلى في حركات يقظة وسريعة.
بيد أن المشهد يفصح عن المزيد. لم يكن ليخطر على بال محمود درويش الواقعي، الحقيقي، وليس المتخيّل، أن يرشو امرأة بقصيدة، أو أن يقرأ لامرأة بعينها، لأن تفكيكه للصورة النمطية للشاعر، كان مشروطاً باحترام الذات، وعدم الخضوع للابتزاز، حتى وإن كانت دوافع الآخرين بريئة. ومع هذا وذاك، كانت طريقته في إلقاء الشعر فريدة، كان الأداء جزءاً من بنية النص، أما القارئ في مشهد الكاماسوترا، أمام المصطبة الحجرية، والبنت ساهمة العينين، فلا يثير سوى الشفقة.
من العبث المقارنة بين محمود درويش الواقعي، الحقيقي، وذلك الذي انتحل شخصيته ممثل رديء. وحتى إذا وضعنا الدوافع التجارية جانباً، هل نسعى لتحليل إصرار ممثل بعينه على انتحال شخصية محمود درويش لمدة ثلاثين يوماً بالتمام والكمال، يقضيها في غواية النساء (سينفق محمود درويش المزعوم في المسلسل من الوقت في صحبة الحسناوات أكثر مما أنفق محمود درويش الواقعي والحقيقي منذ البلوغ وحتى الرحيل)، وكتابة الشعر، وتمثيل فلسطين، من باب التحليل النفسي. لماذا أراد أن يكون محمود درويش وليس نابليون بونابرت، مثلاً؟ هذا منجم إضافي للمعرفة، ولا يتسع المجال، لتحليل كهذا.
كل ما في الأمر أن محمود درويش تعرّض لعدوان ثلاثي شنه ممثل رديء، وسيناريست متوّسط الكفاءة في أفضل الأحوال، ومخرج شاطر. ومفردة شاطر، هنا، تُستخدم بالمعنى التراثي القديم. هذا كل ما في الأمر.
عن جريدة الأيام الفلسطينية
***********
لا يسعني، هنا إلا أن أضمّ صوتي إلى أصوات كثيرين غيري ممن طالبوا، من دون تردّد، بإيقاف عرض مسلسل «في حضرة الغياب»، الذي يجسّد حياة وتجربة الشاعر الراحل محمود درويش، بعد وصلات الابتذال التي طالعتنا بها الحلقات الأولى من هذا العمل الدرامي الباهت، مضمّناً صوتي إلى صوت الكثيرين ممن يجأرون: أنقذوا محمود درويش..
كنا نتوقع أن يُنصف هذا العمل الشاعر الراحل محمود درويش بأداء معقول، إلى حدٍ ما، وكنا نظن أن خبرة الممثل فراس إبراهيم، ومعه حسن يوسف كاتب السيناريو، والمخرج أنزور يمكن أن تفضي إلى عمل درامي نوعي هذا العام، ولا سيّما أنه يحاكي قامة شعرية سامقة، تركت أثراً من شعرها عند أجيال وأجيال، بيد أن الصدمة كانت مهولة ابتداء من أولى مشاهد هذا العمل الكارثي المبتذل الذي غاب فيه محمود درويش الشاعر ولم يحضر الممثل البارع الذي استطاع محاكاته بشكل مقبول.
فإلى جانب الاعتراضات الكثيرة التي سُجلت على المسلسل، ومنها رداءة تقمّص الممثل فراس ابراهيم لدور الشاعر الكبير، وسطحيته وافتعاله في التصدي لمثل هذا الدور، المركّب والمعقد، وما كيل له من عجز في أدائه لشعر درويش بسبب الأخطاء اللغوية الهائلة التي شابت هذا الأداء، يمكن أن نضيف هاهنا سبباً آخراً لعله أسهم في تدني مقبولية الجمهور العربي للدور الذي جسّده فراس ابراهيم لشخصية الشاعر محمود درويش.
والسبب يعود الى كون الشاعر درويش لا يزال راهناً وحاضراً لدى الكثيرين بالنظر الى وفاته التي لم يمض عليها سوى ثلاث سنوات فقط، بمعنى أن شخصية درويش بملامحه وصوته وحركاته وطريقة القائه للشعر لا تزال حاضرة بقوة عند كثيرين ممن سمعوه أو شاهدوه، فليس سهلاً والحال كذلك أن تتغلب أيمّا صورة مُتقمَصة على شخصية درويش الحقيقية لدى الكثيرين، على النحو الذي يسمح ربما في تجسيد شخصية رحلت قبل عشرين أو ثلاثين عاماً مثلاً.
محمود درويش الشاعر شاطر جمهور عريض ذاكرة جماعية لا تزال تفاصيلها حاضرة في وعيه، ذاكرة شعب أقتلع من أرضه بالقوة وقد تلقفته المنافي في أربع جهات هذه الأرض، ومن ثم فان شخصيته وشعره ورمزيته ارتبط عند الكثيرين بقضية كبيرة، هي قضية العرب في فلسطين، وهيهات لشخصية تكرسّت عند كثيرين على ذلك النحو الموغل في الاعجاب عبر هذه السنوات الطويلة أن تنتزعها صورة أخرى، مغايرة في الشكل وفي الأداء، حتى لا نقول أكثر من ذلك، وتحتل مكانها في وعي ذلك الجمهور، الثقافي والسياسي.
لقد خذَل هذا العمل نسبة ليست قليلة من جمهور الدراما الرمضانية هذا العام بالاضافة الى أولئك الذين استدرجهم موضوع هذا العمل الى متابعته حصرياً، وهو ربما ما يفتح المجال مجددّا لادانة منطق التربّح من استثمار رموز مكرّسة في الساحة الثقافية والسياسية والفنية لانتاج مهازل درامية على حساب جودة العمل ونوعيته ورسالته أيضاً، وعلى حساب مكانة هذه الرموز وايقاعها عند جمهورها.
الثلاثاء أغسطس 23, 2011 8:36 pm من طرف ياسمين1