تنهمك النخب والأوساط الشعبية الخليجية والأردنية في محاولة تفسير قرار مجلس التعاون الخليجي الغامض والمفاجئ بدعوة المملكة الاردنية الجارة والمملكة المغربية المطلة على الأطلسي للانضمام إلى المجلس المغلق منذ ثلاثة عقود، فيما بدا محاولة لخلق حاجز سياسي - أمني في مواجهة خطر تمدد النفوذ الإيراني عبر المنطقة الملتهبة بنيران الانتفاضات.
فالقرار الذي أعلن في اختتام قمة خليجية تشاورية مساء الثلثاء لم يعقب أي تحضير للرأي العام داخل دول المجلس، ولم ترافقه تفاصيل عن ماهية العضوية المعروضة والمدة الزمنية المطلوبة لاستكمال الدخول. كذلك لم تفهم الأسباب التي دفعت مملكة المغرب، بعكس الأردن، الى الاعتذار بلباقة عن عدم قبول عرض لم تطلبه أصلاً، وإن أبقت الباب مفتوحاً أمام استشراف اطر لتعزيز التعاون الجماعي.
ويبدو أن المغرب يدرك أن الانضمام إلى «جناح الأمة العربية الشرقي» يتعارض مع منطق الجغرافيا والحقائق الإستراتيجية.
مسؤول أردني رفيع المستوى قال لـ «الحياة» إن المعروض على الأردن «عضوية كاملة»، مشيراً إلى أنه ينتظر تحديد موعد اجتماع بين وزراء خارجية المجلس مع نظيرهم الجديد (ناصر جودة) لصوغ برنامج دخول تدريجي قد يستغرق سنوات؛ بدءاً بعضوية في بعض المنظمات، بما فيها الأمنية والدفاعية.
ضبابية قرار المجلس ساهمت في رفع منسوب القلق الشعبي لدى الخليجيين على أساس أن قراراً مصيرياً كهذا اتخذ بلا مقدمات مسبقة ومن دون طرحه للاستفتاء، مع انه كان قد اتخذ خطوة لتأسيس هيئة استشارية للمجلس الأعلى اقتناعاً بضرورة توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حيوات شعوبهم. كما أججت مخاوف من أن جيوش العاطلين من العمل في الأردن ستزحف صوب أسواقهم لتنافسهم، في ظروف بات الاقتصاد والبطالة يشكلان تحدياً لغالبية دول الخليج، ما يحمل معه تهديداً للاستقرار السياسي.
وتلقف الأردنيون، حكومة وغالبية الشعب ورحبوا به، لكن وسط خشية من رفع سقف التوقعات الشعبية بانفراج اقتصادي سريع. ويأمل أردنيون بتخفيف التشديد على إصدار تأشيرات الزيارة وشروط الإقامة في الخليج، تحديداً في قطر، ما يساهم في استيعاب اكثر من 50 ألف شاب وشابة يتقاطرون سنوياً على سوق عمل مشبعة، فضلاً عن تدفق ملايين الدولارات لإنقاذ الموازنة العاجزة وتوفير أموال إضافية تمنح القيادة شعبية.
في المقابل، أبدى سياسيون تخوفهم من انعكاس مثل هذه العضوية على مشاريع الديمقرطة والشفافية والإصلاح في هذه الدولة الفقيرة. وأصدر ما يعرف بتكتل الـ 36 بياناً انتقد فيه مشروع انضمام الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي.
قرار توسعة عضوية مجلس التعاون سبق بساعات لقاء جمع الملك عبد الله الثاني برؤساء تحرير الصحف المحلية، تحدث خلاله عن الشأن العام عشية ذهابه إلى واشنطن ليكون أول زعيم عربي يلتقي باراك أوباما منذ هبوب رياح التغيير على العالم العربي وإطاحة الرئيسين التونسي والمصري أمام أنظار حليفهما الأميركي.
خلال اللقاء الذي استمر ساعة، قال الملك للصحافيين إنه يخوض محادثات مكثفة مع زعماء الخليج منذ شهرين لمنح الأردن وضعاً أفضل ضمن هذه المنظومة الاقتصادية، السياسية والأمنية، وطلب منهم صراحة عدم التعرض لقادة الخليج.
بورصة التوقعات بأن ثمة منعطفاً ما على الجبهة الخليجية تفاعلت قبل ثلاثة أسابيع حين قال نائب رئيس الوزراء الإماراتي الشيخ منصور بن زايد لرئيس وزراء الأردن معروف البخيت إن المجلس يدرس انضمام الأردن إليه على نحو تدريجي.
كان هذا أول مؤشر مباشر لمسؤول خليجي، بعد سنوات من التردد أمام طلبات انتساب «شفوية» عرضها الملك الراحل الحسين بن طلال في منتصف تسعينات القرن الماضي، قبل أن يحييها أبنه البكر الذي جلس على العرش عام 1999.
جاءت الدعوة الخليجية بعد ثبوت مقدرة طهران على التأثير في الخليج. وقبل ذلك لعبت دوراً تعطيلياً في ملف العراق، ولبنان وعملية السلام من خلال هيمنتها على أحزاب وقوى محلية، كما قال ساسة ومراقبون.
العرض الخليجي هطل على عمان في زمن صعب مملوء بالتحديات الحياتية والاقتصادية والسياسية والأمنية. فانسداد أفق إقامة دولة فلسطينية مستقلة غرب النهر يؤثر في أمنها واستقرارها، بالتزامن مع أزمة اقتصادية طاحنة ساهمت في تحريك الشارع المحبط أصلاً صوب المطالبة بفتح ملف الإصلاحات السياسية ومحاسبة الفاسدين. بين هذا وذاك يخشى الأردن من تداعيات الانتفاضة المشتعلة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد، في ضوء فشل المنطق الأمني في استعادة الاستقرار.
آليات الانضمام
وزراء خارجية الدول الست إلى جانب الأردن سيتشاورون حين يلتقون حول خطة عمل مبرمجة بأهداف آنية، متوسطة وطويلة الأمد لترجمة حلم الأردن بالفوز بعضوية النادي.
ويؤكد مسؤولون أن فتح باب العضوية أمام الأردن جاء بدعم من السعودية، ومن بعدها البحرين والإمارات، وبحماسة أقل من الكويت التي انتقدت صحفها تسرّع القرار الأخير.
توسيع العضوية يتعارض مع الطبيعة المحافظة للمجلس، ويشكل بداية تجاوز الاختلافات بين دوله المتشابهة في أنماط الحكم على نحو يتخطى العامل الجغرافي إلى الفضاء الأيديولوجي السياسي.
وسبق للأردن أن دخل تكتلات جغرافية قبل عقدين. إذ كان ركناً أساسياً في ما كان يعرف بـ «مجلس التعاون العربي» إلى جانب العراق، ومصر واليمن قبل أن ينهار عقب الاجتياح العراقي الكويت في صيف 1990، بسبب التنافس المصري والعراقي على قيادته.
اليوم، يعتمد المجلس الخليجي التقارب السياسي مقياساً لتوسيع العضوية. فالسياسات الخارجية والأمن مؤشرات الى الاختلاف في السياسات الداخلية، والاقتصادية وتلك المتعلقة بالحريات الإعلامية والسياسية وموقع المرأة في الحياة العامة للبلاد. حتى الخلافات المزمنة بين قطر والأردن، طويت بعد مشاركة عمان إلى جانب الدوحة وأبو ظبي في إسناد جهود حلف الناتو لحماية المدنيين الليبيين من كتائب معمر القذافي.
ثمار اقتصادية
الفرص الاقتصادية والمالية التي تلوح في الأفق من بين الاعتبارات التي شجعت عمان على تكرار محاولات ولوج نادي الأغنياء العرب.
لكن على صانع القرار الأردني التفكير بالكلفة السياسية للانضمام إلى مجلس بات بديلاً مما كانت تسمى بـ «رباعية الاعتدال العربي»، والتي انهارت قبل أن تكمل سنتها الرابعة، بإزاحة نظام مبارك ومدير مخابراته اللواء عمر سليمان.
وقد يكون من متطلبات العضوية سير الأردن وراء أهداف الحلف السياسية: مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن للأردن إستراتيجية عليا مختلفة لجهة الأولوية؛ أي القضية الفلسطينية ومآلاتها المعتمة. من جهة أخرى، على الأردن الحفاظ على علاقات جيدة مع النظام المصري الآخذ بالتشكل بعد الثورة، والذي أضحى أكثر حساسية تجاه المشاعر الشعبية، ما قد يدفع مصر في اتجاه مغاير لسياستها السابقة. وهناك مؤشرات قوية إلى إعادة علاقات القاهرة مع طهران، وانفتاحها على غزة، وانخراطها بعلاقات متوازنة مع السلطة الفلسطينية بقيادة «فتح» وحركة «حماس»، والابتعاد من دمشق نتيجة سياسات نظامها في قمع المتظاهرين.
فالأردن، وفق ساسة وديبلوماسيين، بحاجة للإبقاء على شراكة مع مصر، الممسكة بزمام المصالحة الفلسطينية ومخرجاتها، بخاصة إذا توّجت المصالحة بحكومة وحدة وطنية وإعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد أواخر العام بعد فشل إستراتيجية السلام الأميركية. وعلاقات دول مجلس التعاون مع مصر بعد الثورة ما زالت غامضة. وكذلك علاقاتها بسورية، مع أن الأردن يحاول أن يبقي على شعرة معاوية مع دمشق في مواجهة التحديات الداخلية مع المحتجين لأن أي مس بالنظام السوري ستكون له انعكاسات سلبية على الأمن القومي والوطني الأردني.
ثمة أمل بأن يكون الأردن تعلّم من انخراطه في محور الاعتدال بقيادة مصر وغيرها من الدول التي تدعم عملية السلام وتناهض تمدد النفوذ الإيراني منذ انهيار نظام صدام حسين قبل ثمانية أعوام، في مواجهة ما كان يسمّى بمحور «الممانعة» الموالي لطهران بقيادة سورية وعضوية «حماس» و«حزب الله»، وإسناد من قطر التي وضعت رجليها في المعسكرين لتعزيز نفوذها كقوة صاعدة مدعومة بعوائد الغاز والنفط.
ومقابل الانضمام إلى محور الاعتدال (السابق)، طلب من الأردن مخاصمة إيران ودعم سلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس ضد «حماس»، والابتعاد عن سورية. كذلك منع من الاتصال برئيس الوزراء العراقي القريب من إيران، ومن «حزب الله». ودفعت عمان ثمناً غالياً نتيجة لذلك التخندق.
وبقيت في حينها ورقة المصالحة الفلسطينية وإدارة عملية السلام بيد مبارك ومدير مخابراته وهمش دور الأردن. وكثيراً ما ساءت العلاقات السياسية بين الزعامة الأردنية والقطرية ما مس التعاون الاقتصادي وهدد حياة ومستقبل عشرات الآلاف من المغتربين الأردنيين في قطر قبل ان يزورها الملك عبدالله الثاني قبل شهر في محاولة لطي الخلاف عبر الملف الليبي.
ولم يستفد الأردن كثيراً من الدعم المالي الخليجي باستثناء منح قدمتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات.
مستقبل الانخراط
سيتعّزز التعاون الأمني والاستخباري بين الأردن ودول الخليج، لا سيما في مجال مكافحة إرهاب «القاعدة» والأطماع الإيرانية وسط مخاطر انهيار نظام الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، الذي كان يعتمد على دعم مالي خليجي وأميركي لمكافحة «القاعدة» ونفوذ إيران بين الحوثيين.
عسكرياً، قد تنضم وحدات من الجيش الأردني - الأكفأ في المنطقة والأكثر احترافية - إلى قوات «درع الجزيرة» التي استنفرت لحماية البحرين في مواجهة الاضطرابات بتحريض إيراني. الأردن أرسل خبراء لتقديم النصح للسلطات في البحرين. وهو سينال مساعدات عسكرية على شكل آليات ومدرعات، وسيفتح المجال واسعاً أمام تعظيم الاستفادة من خبرات المتقاعدين العسكريين الأردنيين. لكن ثمة خطراً في أن تتحول المملكة إلى عصا ضد إيران ووقود ضد الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاحات.
اقتصادياً، يتطلب هذا المنحى تعديلات شاملة في حزم التشريعات وسيطلب من الأردن تخفيض حواجزه الجمركية المرتفعة. وأمام إمكانات توظيف الأردنيين، ستتعرض الصناعات الأردنية لمنافسة قوية في أسواق الخليج، بخاصة أن من قمة لقادة دول مجلس التعاون الخليجي (رويترز)jpg المنتوجات الخليجية، تحديداً السعودية، تغرق السوق الأردنية من الآن بسبب جودة نوعيتها وتدني أسعارها. ويحتاج الأردن إلى السوق العراقية المجاورة، ومن أجل ذلك لا بد من خطب ود إيران المهيمنة على سياسيي بغداد.
على الجبهة السياسية الداخلية، ثمّة مخاوف نخبوية من أن تأتي المساعدات المالية على حساب تراجع الإصلاحات السياسية والدستورية التي التزم بها الملك.
فهل ستكون للاردن مهمات محددة في مقابل الإسناد المالي، أم أنه سيستعمل أدوات جديدة واستراتيجية مرنة تمكنه من المواءمة بين متطلبات أعضاء المجلس، وفي الوقت ذاته إرجاع سورية إلى الحظيرة العربية، وفتح قنوات تواصل مع مصر الجديدة التي تظل كبرى الدول العربية؟ وهل يستطيع إقناع دول الخليج بأن مصلحتها تتطلب التعامل ببراغماتية مع الجار الإيراني لحماية مصالحها في إقليم مستقر بدلاً من معاداته؟