يقف البعض مع ذكر الله – سبحانه وتعالى – عند مجرد ترديده باللسان وإن كان
في هذا الخير الكثير إلا أنّ الإنسان لابدّ أن يتفكر فيما يقول ويعقله
ولذلك يحسن هنا أن أذكرك بعبادة ملازمة للذكر وهي التفكر.
- عبادة العقول:
وهذا العقل هو المعني بقوله تعالى: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت/ 43).
يقول الله – عزّ وجلّ – واصفاً أولي الألباب فيقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ
لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ) (آل عمران/ 190-191).
يقول ابن كثير:
واعلم أنّه تعالى لما وصفهم بالذكر ثبت أنّ الذكر لا يكمل إلا مع الفكر،
بعده (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنّه – تعالى – رغب في ذكر الله، ولما آل الأمر إلى
الفكر لم يرغب في الفكر في الله، بل رغب في الفكر في أحوال السماوات
والأرض، وعلى وفق هذه الآية قال (ص): "تفكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تفكَّروا
فِي الخالِقِ"، ويقول (ص): "مَن عَرَف نَفسَهُ عَرَف ربَّهُ"، ومعناه: مَن
عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم، ومَن عرف نفسه بالحاجة عرف ربّه
بالإستغناء، فلهذا أمر الله في هذه الآيات بذكره، ولما ذكر الفكر لم يأمر
بالتفكير فيه، بل أمر بالفكر في مخلوقاته.
المسألة الثانية: اعلم أنّ الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله.
إذا عرفت هذا القول فنقول: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق،
ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى: (لَخَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر/ 57)، ولما
كان الأمر كذلك أمر الله – تعالى – في هذه الآية بالفكر في خلق السماوات
والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في خلق الله.
ويقول سيد قطب – رحمه الله –:
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيهاً مكرراً مؤكداً إلى هذا الكتاب
المفتوح، الذي لا تفتأ صفحاته تقلب، فتتبدى في كل صفحة آية موحية، تستجيش
في الفطرة السليمة إحساساً بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب، وفي تصميم
هذا البناء، ورغبة في الإستجابة لخالق هذا الخلق، ومودة هذا الحق، مع الحب
له والخشية منه في ذات الأوان!!!
وألو الألباب.. أولو الإدراك الصحيح، يفتحون بصائرهم لإستقبال آيات الله
الكونية، ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات،
ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم،
وتشف مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه وتدرك غاية وجوده،
وعلة نشأته، وقوام فطرته، بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري، ونواميس
هذا الوجود.
وإنذه يقرن إبتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (آل عمران/ 191)،
وبين التفكر في خلق السماوات والأرض وإختلاف الليل والنهار.. فيسلك هذا
التفكير مسلك العبادة، ويجعله جانباً من مشهد الذكر.. فيوحى بهذا الجمع بين
الحركتين بحقيقتين مهمتين:
- الحقيقة الأولى:
أنّ التفكر في خلق الله والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبع يد الله
المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب.. هو عبادة لله من
صميم العبادة، وذكر لله من صميم الذكر ولو اتصلت العلوم الكونية، التي تبحث
في تصميم الكون وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومدخراته وفي أسراره
وطاقاته.. لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره، والشعور بجلاله
وفضله، لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة، ولإستقامة
الحياة، - بهذه العلوم – واتجهت إلى الله.
ولكن الإتِّجاه المادي الكافر، يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين
العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية، ومن هنا يتحول العلم – أجمل هبة
من الله للإنسان – لعنة تطارد الإنسان، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة، وإلى
حياة قلقة مهددة، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار!
- الحقيقة الثانية: أن آيات الله في الكون، لا تتجلى على حقيقتها الموحية،
إلا للقلوب الذاكرة العابدة، وأن هؤلاء ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ)، - وهم يتفكرون
في خلق السماوات والأرض وإختلاف الليل والنهار – هم الذين تتفتح لبصائرهم
الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض وإختلاف الليل والنهار،
وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير
والصلاح..
فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى
الكونية – بدون هذا الإتصال – فهم يدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه
الأسرار، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد، وإلى قلق خانق، ثمّ ينتهون إلى غضب
الله وعذابه في نهاية المطاف! ومن ثمّ تكون الحصيلة المباشرة، (رَبَّنَا
مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ) (آل عمران/ 191).
هذه هي اللمسة الأولى التي تمس قلوب "أولي الألباب" من التفكر في خلق
السماوات والأرض وإختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والإتصال، وهي
اللمسة التي تطبع حسهم بالق الأصيل في تصميم هذا الكون، فتطلق ألسنتهم
بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلاً.
وفي أنفسكم:
ويقول تعالى موجهاً نظرنا إلى تفكر آخر وهو تفكر في النفوس لا في خلق
السماوات والأرض فقط فيقول: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)
(الذاريات/ 21).
يقول سيد قطب:
وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض، ولكنه يغفل عن
قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم
نعمة اليقين.
أنّه عجيبة في تكوينه الجسماني: في أسرار هذا الجسد، عجيبة في تكوينه
الروحي: في أسرار هذه النفس، وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه، وهو يمثل
عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه:
وتزعم أنك جرم صغير **** وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنها للحظات ممتع حقّاً تلك التي يقضيها الإنسان بتأمل وجوه الخلق وسماتهم
وحركاتهم وعاداتهم بعين العابد السائح الذي يجول في متحف من إبداع أحسن
الخالقين، فكيف بمن يقضي عمره كله في هذا المتاع الرفيع؟
إنّ القرآن بمثل هذه اللمسة بخلق الإنسان خلقاً جديداً، بحس جديد، ويمتعه
بحياة جديدة، ويهبه متاعاً لا نظير له في كل ما يتصوره في الأرض من متاع.
وعلى هذا النحو الرفيع من التأمل والإدراك يريد القرآن الناس. والإيمان هو
الذي يمنح القلب البشري هذا الزاد، وهو الذي يهيئ له هذا المتاع العلوي،
وهو بعد في الأرض في عالم الطين.
............
ربي ساّمِحني عِندَمَاّ أَحزَن عَلّى شَيء أَرَدَتَـُه
وَ لَم تَكتُبُه لِي....