شاعرة وفنانة فوتوغرافية، تمثل جيل أدباء الإنترنت في السعودية، خاصة بعد صدور ديوانها الثاني (أيقونات) الذي تمت ترجمته للغة الإنجليزية، تتميز كتابتها بالخفة الشعورية والرسائل البرقية والتعبير الأنثوي الإنساني الحر والجريء. كتبت باسم مستعار هو ((ميلاد)) لمدة ثلاثة أعوام حتى أصدرت أول ديوان لها عام 2002 والذي حمل اسمها الحقيقي. وتوالت بعده الإصدرات ومشاركتها في الأمسيات والمعارض المحلية والعربية والأوروبية.
تنسج الشاعرة هيلدا إسماعيل في ديوانها الجديد «ولا... أشهى» الصادر مؤخرا عن دار الانتشار العربي، صورها الشعرية من بداهات اليومي الذي يتنقل بيننا دون أن نشعر به من كثرة ما نتداوله. ورغم اختيارها للغة سلسة تميل إلى المباشرة والبساطة فإنها تغزل الفاعلية التصويرية بين مفردات العبارة الشعرية بطريقة تذهل القارئ وتجعله يأكل أصابعه من متعة التذوق، وأحيانا تسيل لعابه بالطريقة التي تستدرجه بها لفك لغز المعنى المقتنص. إنها أشعار على شاكلة المشروبات الخفيفة أو المأكولات السلطية التي لا تثقل المعدة، ولكنها كثيرة الفائدة وجيدة المفعول. أشعار على شكل قصيدة الهايكو حجما لكنها أبلغ دلالة وأشد انبثاقا من الذات والواقع. لأن الشاعرة لا تقحم ذاتها بما لا يفيد في تلغيز المعنى، فهي تصر على الإيمان بأن المعاني توجد هاهنا حيث ننتحر يوميا على أسوار واقع متحجر وبئيس. تلتقط الشاعرة من محكيها اليومي أو لنقل المحكي الإنساني لأنها ليست وحدها تعيش في هذا العالم. وتصوغ العالم الشعري من هذا الشتات المأزوم بشكل يظهره أشد أناقة. وهنا شدة الصعوبة التي تعانيها الشاعرة وتشذب النصوص وتشيد معانيها ومشاهدها حجرة حجرة.
لقد بدأ التمهيد الإشعاري للاختيار الشعري منذ العتبة الأولى «العنوان» «ولا.. أشهى»، على اعتبار أنه مقولة تدعو إلى استثارة الرغبات في المتلقي تهييئا له على تقبل العالم الشهواني الداخلي الذي دون شك، سيحمل بين طياته ما يحرك الرغبات الشهية التي يمتلكها القارئ للديوان. وهذا مؤشر قوي على أن المنجز يتوفر على محركات لنوازع المتعة في الجسد الذي حتما لا يعادل الرغبة الجنسية المكبوتة فحسب، بل قد يتعداها إلى ما دونها، وإن كان المنجز نفسه يوحي بها ضمنيا سواء عبر العنوان أو عبر اللوحة المصاحبة. ومهما كان القصد مخاتلا فالشاعرة لعبت على مكون الرغبة لاستقبال المتن الشعري بالشغف المطلوب. لقد أضحت السيولة الشهوانية التي تتراكم في الجسد محرك كل التلقيات بما فيها التلقي الأدبي. ومن حق الإبداع أن يراهن على كل مكونات الشعور واللاشعور لإثارة الانتباه إلى مواده الدسمة ما دامت كل الفنون بدأت تعزف على الوتر الحساس لدى الإنسان خاصة باعتمادها على سلطة الصورة.
ويستمر لون الرغبة والشهوة متغلغلا حتى في التفاصيل العميقة للمتون الشعرية هنا، لكن بشكل موارب يتداخل مع التذوق والتلذذ الباطني للجسد في تعدد وتنوع رغائبه.
لقد ركزت التجربة على نبش الرغائب الدفينة التي تنام في الإنسان مع الاندثار والمشاغل والذوبان في متاعب الدنيا: رغبات كسولة تتفجر مع اللمسة الأولى خاصة إذا ما استصحبتها البدايات المتشكلة مع زمن الطفولة والحلم والأحلام اليقظة، وحتى الأحلام المعاكسة. إنها تتحول من رغبات إلى جروح كلما تقادمت ومر عليها السهو، لكنها مع ذلك لا تفقد مثيراتها وأحاسيسها كلما نبشت تزداد عتاقة مثل خمرة. وقد كان هذا من رهانات تجربة هيلدا في هذا الديوان الشعري.
إن تجربة الديوان مثل أي شعر تنطلق من الذات، من الذاكرة، من الأحاسيس النابضة في القلب والأحشاء، من اليومي الشائك، من المعتقدات الأسطورية التي تنمو وتحيا وتترعرع في المخيلة المشتركة، قبل أن تصير إحساسا جماعيا بالحياة، بالذات، وبالآخر. إن التجربة تشغل شعرية التحويل التي تقلب الدوال في علاقتها بالمدلولات، حيث يصبح للديوان معجمه الخاص به: معجم يخاطب في المتراكم اللغوي محيلاته الدلالية الكامنة في الحلم والذاكرة والطفولة، قاموس يدغدغ الأحاسيس، ويحرك المشاعر المرهفة بالأشياء. لقد اجتهدت الشاعرة في رصد الكلمات البسيطة ذات العمولة الإحساسية القوية، والمعاني ذات الحمولة الإنسانية المفرطة. كل كلمة لها وزنها، بل كل حرف من الحروف المتناثرة هنا وهناك. وهذا يعني أن الشاعرة تعول على مقدرة القارئ في التوصل إلى جوارات المعنى الفضية إلى لب العبارة. فالأكيد أن القصائد القصيرة، المختزلة للعوالم الشعرية، لا تقول كل شيء بل تلمح بحذق ومهارة بالغين، وكأنها تطلب من القارئ أن يهتدي بنفسه للمعنى، وأن يشاطر الشاعرة همومها وأحلامها ولغاتها. إن القارئ جزء لا يتجزأ من عالم القصيدة هنا.
تشكل الذاكرة حافزا بنائيا قويا في الكتابة. فالشاعرة تستدعي بقوة لحظات تشكل الوعي بالأشياء، بالحواس، بالشعور بنمو عمود الجسد، بالنسبة للعامل الذات، في بعده التخييلي وليس العضوي: إذ تستحضر لحظات الولادة المرة، وجولات اللعب على السطوح، قبل أن يسرقها تصلب أعضاء في الجسد من حميمة الأصدقاء في الحومة، لتستعيض عن الدرب بالسطوح في ليالي القمر، وتستبدل متعة الظهور بلذة التخفي. تقول الشاعرة:
صبية...
أبعث من جديد
للمدرسة...
أجر (أعقابي)... ص 15.
كما أن المنجز يوحي أيضا بكون الوعي المشكل داخل النص لا ينفصل عن موازاة نمو السلطة بمعانيها المتعددة، وعن دورها الوظيفي والرمزي في كبت المشاعر الحارقة، وإقبارها إلى أجل غير مسمى. وهنا تعيد الكتابة إحياء المسام التي خذلت بهذا الإقبار في محاولة لدغدغتها أملا في أن تعالج ما أفسده الدهر. الكتابة معادل رمزي لتفتيق حق الحواس في التعبير عن الرغائب المقهورة التي تعذب الوعي الشقي:
«نصف امرأة للبيع
أنثى...
مكسور ما بعدي» ص 33.
إن فعل التذكر يأتي ضدا على فعل الزمن الذي تتسارع وتيرته، على الأقل داخل النص، ليوحي بما يبعث في النفس من أسى، والذات تتخيل المستقبل القادم لامرأة عجوز يتكوم فيها كل شيء، وتذبل فيها تضاريس الجسد التي تبهر الآن كل من رمقها. إن الشاعرة، تجعل الأزمنة تتداخل في متن الشعري، تاركة المجال للإلهام أن يتأمل بشكل فلسفي ورؤية تذمرية الفعل الزمني ودورته الرهيبة التي يمارسها على الأشياء، رابطة هذا الفعل الوظيفي خاصة بالجسد الأنثوي، وكيف تتغير نظرة الرجل له بفعل هذا الفعل الزمني. الأمر نفسه أكده الاشتغال الكاليغرافي للمنجز على لعبة البياض والسواد، وتوظيف السند البصري في نحت المداد على البياض الذي يرسم أشكالا وأيقونات ترتبط فعليا بجوهر العالم الشعري، وتعضده لتكون في الأخير، كل العناصر متداخلة ومنسجمة في أداء دلالة النص الكلي.