قد تُضيعك أمّك في الحقول "التركية" ،
وسيكون مُضحكاً أن يقول لاجىء – في معرِض حديثه حين يكذبُ على أحفاده لاحقاً – أنه قد ضاع !
وحده الذي كان يعرف وجهته ؛ هو الذي يضيعُ يا صديقي ،
وأنت وجهتك كانت مُجرّد النجاة من الموت ؛ وها أنت لم تمت على كل الأحوال !
ولا تَخف ؛ فكلّ شيءٍ في البيت، هناك، سيظلّ على حالِهِ ؛
أواني المطبخ ، ألعاب الأولاد ، الشجرة العاقر خلف النافذة ، .. كلّ شيءٍ سيظلّ على حالِهِ ؛ لكنك من هذا الصباح ستعتاد أشياءك الجديدة : أنت الآن رقمٌ في سجلات اللاجئين ، وفي نشرات الأخبار ،
وفي اجتماعات اللجان ومساعي الوفود ،
وفي قصائد الشعراء الذين يستفيدون من قتلى المعارك أكثر مما يستفيد عُمّال المقابر !
ستكون الخيمة مزعجة في الليلة الأولى، ثم في السنة الأولى ، بعد ذلك ستصير ودودةً كواحدٍ من العائلة ،
لكن حاذر أن تقع في حبها ؛ كما فعلنا !
لا تبتهج إن رأيتهم يقيمون لكم مركزاً صحياً ، أو مدرسةً ابتدائية ، هذا خبرٌ غير سارّ أبداً !
وإيّاك أن تتورط بمطالبات غبية مثل بناء بيوت بسيطة بدل الخيام ،
أو بخطوط مياه وكهرباء ، ذلك يعني انك بدأت تتعايش .. وهنا مَقتلُ اللاجىء ، وهنا أيضاً مَقبرته !
انتبه دائماً أن لا تترك غضبك في الخيمة حين تخرج ؛
كُن غاضباً دائماً ، غضبك هو الذي سيجعلك حيّاً ،
غضبك أهمّ وأوّل مَعدّات بقائك ، وان استرحتَ يوماً فهذا يعني أنك لم تعد تلهثُ باتجاه " العودة " !
ولا تُدرّب أولادك على الصبر، الصبر حيلة العاجز، وذريعة مَن تَخلّى ،
واللاجىء يموت إن لم ينظر خلفه مرّتين في اللحظة الواحدة .
أنت لستَ ابن " هناك " ؛ تَذَكّر هذا دائماً ؛ أنت لك " هنا " جميل ولا يُخان ، ..
لا تنم ليلةً دون أن تُعدّد محاسنه لأطفالك ، واقرأ عليهم كيف مات الناس،
وكيف ذُبحوا على شاشات التلفزيون لأنهم لم يُصفّقوا للخِطاب ،
وقل لهم أنك تنام بين أشجارٍ غريبةٍ ، لأنك لم تشأ أن تُلدغَ من " أسدٍ" واحدٍ مَرّتين !
سيبيعك الناس لبعضهم ، تلك هواية السياسيين ، وسيجيؤك المتضامنون من كل البلاد ،
ستصير أنتَ شعارهم الانتخابي ، ويتقربون بك إلى الله ،
وستزداد همّة الناس في تفقّدك في "رمضان" وفي الأعياد والمناسبات الدينية !
والبعض سيصوّر أطفالك منهكين وجائعين لمجرد أن يحصل على مكافأة من رئيس التحرير أو مدير المحطّة ،
وزوجتك النائمة الآن في الظلّ قد تكون موضوعاً لصورةٍ تفوز بجائزةٍ دولية !
تلك حياتك الجديدة : سينشب حبٌ في الخيام ، ويولد رَسّامٌ موهوب ،
وسيولد أيضاً عميلٌ وعاهرةٌ ، وسيولد فدائيٌّ مهمّته أن يصنع ( من جزمةٍ أُفقا ) !
ستتعلّمون لغات جديدة ، ومشاعر جديدة ، وستنشأ علاقةٌ مُلتبسةٌ مع المنفى ،
وقد تشعر في ليلةٍ ماكرةٍ بأنه لا ينقصهُ شيء ليكون كافياً كوطن .. ؛
لكنك سرعان ما ستنتبه : الأشجار هنا لا تخضرّ كما يجب ، والملح ليس مالحاً ،
والذين ماتوا لن يغفروا لي ، وتعود تنظر للوراء مرّتين !
وهنا سيتقدمُ ابنك - الذي صار رجلاً دون أن تنتبه - ليحمل عنك الذاكرة ،
.. ويحمل حُلمك الذي أنقض ظهرك !
ربما يا صديقي أن الأمر سيبدو مُعقّداً في البداية ؛ لكنّه واضحٌ : أنت "هناك" لأن الـ " هنا " متوعكةٌ ،
وقد يطول غيابك ليلتين ، لكنك لستَ في رحلةٍ للبحث عن هويّة جديدةٍ ، ولن تُفكّر حتماً في مدّ سلك كهرباء الى الخيمة ؛ .. تلك خطيئتنا نحنُ ، حين قُلنا : الخيمة ضيّقةٌ ونحتاج خيمتين إضافيتين !
يا صديقي لا تُفكّر في الأمر إلّا وأنت تنظرُ خلفك ،
وتذكر أيضاً أنك أدرتَ خدّك الأيسر مرّتين . أيّ خدّ ستدير الآن ؟ !
...
واسمعني، فانا أفوقك خبرة ب 63 عاماً في هذه "المهنة": لا تلتقط الصور التذكارية مع سفراء النوايا الحسنة،
ولا تشكو لهم حرارة الطقس أو من الحصى في الخبز،
وحاذر أن تطالب بخيمةٍ أفضل ، ليس ثمة خيمة أفضل من خيمة ،
وقل لهم أن مشكلتك ليست عاطفية ولن تحلّها زيارة "انجلينا جولي" !