عند مغادرة البيوت العتيقة نأخذ معنا كل الأشياء ألا الأمكنة / فحقائبنا لاتتسع للجدران... ولا لـــ الأمكنة !
(1)
اليوم وأنا أحزم حقائبي لمغادرة البيت القديم / كان ضجيج ما يعلو في داخلي
فاختلطت بي وجوه وأصوات كل الذين كانوا يوما هنا .. ورحلوا!
وكأن السنوات كلها إستيقظت بي لتودعني!
وللسنوات صوت كلما مر العمر بنا إزداد قوة !
فهل سمع أحدكم يوما نبرة صوت السنوات وهي تناديه؟
(2)
وهل نادت عليكم البيوت العتيقة يوما وأنتم تديرون لها ظهوركم مودعين؟
هل سمعتم صوت بكائها؟ ولمحتم الجدران تلوح لكم مودعة؟
هل خيل إليكم ان روح ما تُبث في الجماد فينظر إليكم بحزن مودع ؟
فبعض الأمكنة تتحول عند الرحيل إلى أب وأم وأخوة !
بعض الأمكنة تتحول عند الرحيل إلى طفل مدلل
يتشبث بثوبك وقدميك وقلبك
فتصبح خطوة المغادرة أثقل من جبل !
(3)
وكيف لاتستيقظ بنا السنوات عند الرحيل لتودعنا ؟
كيف لاتبكي لفراقنا الجدران ؟
وفي الجدران خبأنا العمر كله إلا قليلا
فنحن حين نغادر القديم
لانغادر مجموعة من الطوب ُصفت بيد بناء محترف
ولا نغادر أحواض من الرمل سرقت شمس الزمن صفرتها
ولا نغادر مجموعة من الأشجار المسنة التي طالت حتى شاخت
فنحن حين نغادر البيوت العتيقة
لا نغادر جزءا من مكان
نحن نغادر جزءا من عمر !!
فجدران البيت العتيق / ككتاب العمر !
وحين نرحل نترك الكتاب مفتوحا بلا أغلفة
ونترك بين طيات الكتاب من التفاصيل الكثير !
(4)
وهنا سأترك طفلة بضفائرها
طفلة كانت تتسمى بإسمي و تشبهني كثيرا
إلا انه لم يكن للحزن بها وطن !
هنا سأترك لعبتي التي دفنتها في الرمل منذ سنوات
خشية ان تهديها والدتي ذات عقاب لإبنة الجيران
هنا سأترك بيوت الرمل التي لم تكن مجرد ماء ولا طين
كانت نماذج مصغرة لأحلامي !
فمن الطين صنعت منزلي
ومن الطين صنعت فارسي
ومن الطين صنعت أطفالي
ومن الطين صنعت بخيال الطفلة كل أبطال حكايات جدتي !
صنعت عروسة بحذاء واحد / وأطلقت عليها سندريللا !
وصنعت عروسة بالثوب الأحمر / وأسميتها ليلى !
وصنعت عروسة يحيط بها أقزامها السبعة / وناديتها بيضاء الثلج !
وسهرت ليالي طويلة كي أصنع حصان المتنبي
وخلطت التراب بالفحم كي أصنع عنترة !
وصنعت تمثالا هزيل الجسد / وقلت هذا مجنونها العاشق !
وأصبح لدي مدينة كاملة من الطين !
(5)
فتماثيل الطين كانت هي أحلامي المؤجلة للغد
أحلامي التي قالت لي جدتي عنها
انها يوما ما ستطرق بابي
وانني يوما ما سألتقيها على طرقات العمر
وانني يوما ما سأعيشها خارج أسوار حكايات ماقبل النوم
وجاء الغد ولم تكن أحلامي في سلته
ولا في يديه ولا في جيبه ولافي حقيبته
ترى؟
هل إعترض ذئب الطريق / طريق الغد
فنهش أحلامي بوحشية !
لهذا وصلتني معظم الأحلام حين وصلت
مشوهة الملامح.. ناقصة الأعضاء والأجزاء
(6)
وحين كبرتُ قليلا / وربما كثيرا !
غادرت أحواض الرمل / إلى زوايا البيت !
فلكل زاوية في البيت العتيق في قلبي حكاية !
فبين الزوايا تنام أحاديث مراهقتي
وهمسات أسرار خجلى سكبتها ذات اعتراف أبيض في أذن رفيقات المدرسة
ولم أكن أعلم ان أذان رفيقاتي مثقوبة
وان اذان الجدران اوسع للسر من قلوب رفيقاتي !
(7)
وفي زوايا البيت القديمة خبأت كنوز من تفاصيل العمر !
خبأت تركة لاتورث !
فبين الزوايا تتمدد أيامي ..ويلتحف كالنائم عمري!
فــ لكل زواية ذكرى وحكاية !
فزوايا رقصت بها فرحا وأخرى رقصت بها ألما !
وزوايا ضحكت بها وزوايا سهرت بها وزوايا انتظرت بها
وزوايا رسمت بها / وزوايا كتبت بها / وزوايا بكيت بها !
وزوايا احتضرت بها ..وزوايا متُ بها ... وزوايا كبرت بها!
فهل جرب أحدكم يوما ان يكبر بين الزوايا
وهل جرب أحدكم يوما ان يغادر الزوايا التي كبر بها؟
(8)
مااصعب توديع الامكنة
فالأمكنة تمرض خلف أصحابها وربما تموت
لهذا يخفت النور بها بعد رحيلهم كثيرا !
و تبدو المنازل المهجورة كالمرأة المسنة
بيضاء الشعر / محنية الظهر / شاحبة الوجه !
فالأمكنة تبكي / ولكن !!
لايسمع بكاء الأمكنة إلا انسان سترت الأمكنة بكاء قلبه يوما
ولايشعر بوهن الأمكنة عند الفراق
إلاانسان سندته عند وهنه جدرانها!
(9)
فان قررتم يوما مغادرة البيوت العتيقة
فلا تؤذوا مشاعرها !
واستتروا من الزوايا وأنتم ترتبون حقائبكم
استتروا من الجدران وأنتم تجمعون آخر البقايا
استتروا من الأبواب وأنتم تتجهون / نحو باب الخروج !
فاللبيوت أعين وقلوب !