من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى فجر القرن الحادي
والعشرين: عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر تحت تأثير الحرب الباردة
وعواقبها (1945-1995) ساحة من الخراب في
8 مايو/ أيار 1945, يوم النصر, بدأت أوروبا المثخنة بالجراح والمستنزفة
الموارد تقف على قدميها وتحس بارتياح عقب ست سنوات من الطغيان والمجازر.
بيد
أنه لم يشعر أحد في كل أنحاء العالم بالاغتباط العميق العفوي والمباشر
الذي كان قد تملك الشعوب كافة عندما تحقق النصر الآخر في 11 نوفمبر/ تشرين
الثاني 1918 عند انتهاء الحرب العالمية الأولى. فقد حال استمرار الحرب في
آسيا, بل كذلك استمرار الشقاق بين المواطنين إثر تعاون البعض مع العدو
المحتل, واكتشاف ركام الجثث وأهوال معسكرات الموت, والشعور بالحداد على
الموتى وبالأسى على ويلات الدمار, والهلع من المستقبل, دون استسلام الشعوب
بلا تحفز لنشوة السلم المستعاد.
وفضلاً عن ذلك, لم تعد
الأوهام مقبولة, فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى, رحبت الشعوب بالهدنة
التي وقعت في ريتوند (Rethondes) في فرنسا كانتصار للحق على القوة الغاشمة
وانتصار لعزيمة السلم على عنف الحروب. وكان من المرتقب أن يتفادى للأبد
التنظيم الجديد للعلاقات الدولية في إطار عمل عصبة الأمم من العودة إلى
التقاتل المتصل الذي كان العالم قد بدأ يتخلص منه.
كان
الوضع مختلفاً تماماً في مايو/أيار 1945, فالكل أحس بهشاش ة التحالف الذي
تغلب على الهدرة (الأفعى) النازية, وسرعان ما ظهرت انقسامات المنتصرين من
جديد فور موت هتلر.
ولم يكن بإمكان الصليب الأحمر أكثر
من غيره من المؤسسات أن يستسلم للارتياح, فقد اقترب على قاب قوسين من آلام
وعذاب آلاف من الضحايا لكي لا يشعر بالراحة والسعادة بعد استتباب السلام.
ولكن, إذا كان الصليب الأحمر قد تمكن طوال سنوات الحرب الست من تطوير
أنشطته تطويراً مدهشاً, وأحرز نجاحات لا جدال فيها, فإنه كان قريباً للغاية
من الضحايا لكي لا يقدر أوجه فشله حق التقدير.
وكانت
الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر في جميع أنحاء العالم تتصدر
الكفاح لتخفيف معاناة الشعوب, فكانت تعاون بفعالية الوحدات العسكرية
الطبية, وتشرف على تنظيم الرعاية الطبية خلف خط النار, وتساعد المتماثلين
للشفاء وتغيث أسر العسكريين الذين وقعوا في ساحة القتال. وفي العديد من
البلدان, عاونت , بل أحيانا حلت بقدر الإمكان محل مرافق الخدمات الاجتماعية
التي عطلتها الحرب وشلت حركتها. بل حتى في بلدان أوروبا المحتلة, تمكنت
الجمعيات الوطنية من متابعة أعمال الإغاثة في حدود التقييدات الضيقة التي
فرضتها سلطات الاحتلال على أنشطتها.
وطوال الحرب
العالمية الثانية, كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر النابض الرئيسي
لأعمال مساعدة أسرى الحرب , ونجحت وكالتها المركزية لأسرى الحرب التي كان
يعمل فيها أكثر من ثلاثة آلاف متطوع في إعادة الاتصالات الحيوية بين الأسرى
وعائلاتهم, وجاب مندوبوها العالم أجمع لتقديم المساعدة للأسرى والسهر على
شروط أسرهم. وفي جنيف, أعدت اللجنة الدولية برنامج إغاثة واسع النطاق, حتى
أنها أضحت أكبر مؤسسة للنقل المدني خلال تلك المرحلة. وأسهمت أعمال
الإغاثة التي باشرتها في اليونان بمساندة من الحكومة السويدية إسهاماً
حاسماً في إنقاذ أهالي هذا البلد من الجوع. ولكن, بالرغم من تلك الإنجازات
التي لا سابق لها, وبالرغم من جائزة نوبل للسلام التي مُنحت لها للمرة
الثانية في ديسمبر/ كانون الأول 1944, فإنها وجدت نفسها في موقف الاتهام
عندما انتهت الحرب, واعتبرت مسؤولة عن المصير المأساوي لأسرى الحرب
السوفيتيين الذين مات أكثر من نصفهم في الأسر, ولامها البعض على عدم
تنديدها بالاضطهادات العرقية وبجحيم المعتقلات التي اكتشف العالم كل
فظائعها بعد انهيار ألمانيا النازية(1).
التعمــير كانت
أوروبا من المحيط الأطلسي إلى نهر الفولجا مسرحاً للدمار والخراب نتيجة
لتقاتل الجيوش فيها, وأعمال القصف والهدم. وكانت المجازر عديدة, والمحاصيل
والمواد الغذائية الاحتياطية شحيحة واجتاح القحط كل مكان, وعلى الأخص
ألمانيا وأوروبا الشرقية والبلقان.
غير أن المنتصرين لم
ينتظروا نهاية الحرب لإعادة فترة ما بعد الحرب والاهتمام بالتعمير. ففي
سنة 1943, أنشأ الحلفاء هيئة مخصصة لإعداد وتنسيق أعمال إغاثة جبارة لمصلحة
الأهالي المتضررين من الحرب. وفي أوائل سنة 1974, أعطت خطة مارشال دفعة
جديدة لأعمال التعمير, مما سمح لأوروبا – أو على الأقل لأوروبا الغربية –
بالتغلب على الكساد بصورة أسرع بكثير مما كان مأمولاً.
وقد
اشتركت الجمعيات الوطنية بحماس في عملية الإغاثة والتعمير الواسعة النطاق
السابق ذكرها. وتكفلت بإيواء ورعاية أسرى الحرب القدامى والمبعدين عن
بلادهم واللاجئين. كما أسهمت في إعادة معوقي الحرب إلى المعيشة في
مجتمعاتهم. وأنجز عدد كبير من هذه الجمعيات, وخاصة الصليب الأحمر
الأمريكي, عمليات إغاثة باهرة لمصلحة الأهالي الذين لاقوا الويلات أكثر من
غيرهم بسبب الحرب والاحتلال, لا سيما في فرنسا وبلجيكا وهولندا وبولندا
ويوغوسلافيا واليونان.
أما اللجنة الدولية , فقد حاولت
وفقاً لولايتها أن تقدم المساعدة لضحايا النزاع, وبصورة أولية للضحايا
الذين لم يتمكنوا من الاعتماد على معونة من منظمات الإغاثة التي أنشأها
الحلفاء, نظراً لانتمائهم إلى معسكر المهزومين, أي أسرى الحرب الألمان
الذين تضاعف عددهم تضاعفاً خطيراً بسبب استسلام ألمانيا دون أي شرط ,
والأهالي ذوو الأصل الألماني الذين هاجرواً جماعياً من بلدان أوروبا الوسطى
والشرقية, والأهالي الألمان الذين كان عليهم أن يذوقوا بدورهم مرارة
الهزيمة وقسوة الاحتلال.
وكان ذلك الاهتمام الذي أعير
للمهزومين مطابقاً بلا أدنى شك للمبادئ الأساسية للصليب الأحمر التي تفرض
عليه أن يمنح مساعدته دون تمييز ويلبي الاحتياجات الأكثر عجلة بصورة
أولية. غير أن ذلك الاهتمام لم يفهم حق الفهم. ففي الوقت الذي بدأ فيه
العالم يدرك تماماً كل أهوال الاضطهادات التي تحملت ألمانيا الهتلرية
مسؤولياتها, وفي الوقت الذي بدأ فيه الأهالي يفوقون أخيراً من كابوس
الاحتلال, كيف يمكن قبول عزم اللجنة الدولية للصليب الأحمر على تقديم العون
لأسرى الحرب الألمان المتهمين جماعياً بتحمل مسؤولية الجرائم التي
اقترفتها ألمانيا النازية, والذين كان أكثرهم ضلوعاً في الجرم عرضة
للمحاكمة كمجرمي حرب؟ ولم تتأخر الاتهامات, بل إن البعض نظير الحكومة
السوفياتية طالب بحل اللجنة الدولية ووقف أنشطتها بلا قيد ولا شرط.
بيد
أن تلك الاتهامات لم تصدر عن بعض الحكومات فقط, بل إن داخل الحركة ذاتها,
حبذت رابطة جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في الاتحاد السوفياتي
فضلاً عن الصليب الأحمر اليوغوسلافي حل اللجنة الدولية ونقل وظائفها لرابطة
جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر. واقترح الكونت برنادوت, رئيس
الصليب الأحمر السويدي, تعديل تشكيل اللجنة الدولية لكي يقبل فيها ممثلون
لكل الجمعيات الوطنية. كما اقترح البعض الآخر إسناد وظائف تنفيذية للجنة
الدائمة التي انتخبها المؤتمر الدولي للصليب الأحمر , والتي كان من المقترح
أن تكون لها السلطة على اللجنة الدولية والرابطة.
وإزاء تلك الاتهامات, حاولت اللجنة الدولية جاهدة أن تعدل موقفها في المجالات الثلاثة التالية:
ففي
المجال الميداني أولاً, لم تقتصر اللجنة الدولية على مواصلة عملها تحقيقا
لمصلحة ضحايا الحرب العالمية الثانية, بل تدخلت أيضا لمساعدة ضحايا
النزاعات الجديدة التي كانت تمزق العالم, مثل الحرب الأهلية اليونانية
والنزاع الإندونيسي وحرب الهند الصينية والنزاع الأول بين الهند وباكستان
والنزاع الأول العربي الإسرائيلي. ولكن إذا لم يكن بوسع اللجنة الدولية
سوى إنجاز عمليات محدودة للغاية في اليونان أو إندونيسيا أو الهند الصينية
أو كشمير, فإن أنشطتها في فلسطين شهدت تطوراً ملحوظاً, الأمر الذي سمح لها
بأن تؤدي دورها التقليدي خير تأدية, أي دور الوسيط المحايد بين
المتحاربين. ولم تقصر اللجنة الدولية في التعريف على أوسع نطاق ممكن
بالأعمال التي اضطلع بها مندوبوها والنتائج المحرزة في هذا الصدد, بغية
حماية المستشفيات وإنشاء مناطق أمن وتبادل الأخبار العائلية وحماية
المعتقلين وتوفير المساعدة للاجئين على الأخص. وكان الغرض الذي قصدته
اللجنة الدولية من ذلك هو الكشف عن الخدمات التي يمكن لها أن تؤديه كوسيط
محايد , والتشديد بالتالي على ما قد يعانيه ضحايا الحرب من عواقب في حالة
زوالها (2).
واهتمت اللجنة الدولية في الوقت ذاته
بمراجعة اتفاقيات جنيف المؤرخة في 27 يوليه/ تموز 1929, والتي كشفت الحرب
عن أوجه نقصها بكل وضوح. وفي الواقع, لم تنتظر اللجنة الدولية نهاية
الأعمال العدائية للإعلان عن عزمها على العكوف على ذلك العمل. فقد أعلنت
في مذكرة لها صدرت في 15 فبراير/ شباط 1945 أنها بدأت بإجراء مشاورات لهذا
الغرض.
إن اللجنة الدولية شرعت في إجراء تلك المراجعة بغية تحقيق غايات رئيسية ثلاث, هي:
- تمديد الحماية التي تمنحها اتفاقيات جنيف لكي تشمل المدنيين الذين يقعون تحت سلطة العدو;
- حماية ضحايا الحروب الأهلية;
- تزويد الاتفاقيات الجديدة بآلية للرقابة تشارك فيها بنفسها.
ودعت
اللجنة الدولية إلى عقد اجتماع للجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال
الأحمر في سنة 1946, ثم للخبراء الحكوميين في سنة 1947. واستناداً إلى
أعمال هذين الاجتماعين, أعدت اللجنة الدولية أربعة مشروعات لاتفاقيات وافق
عليها المؤتمر الدولي السابع عشر للصليب الأحمر في اجتماعه المنعقد في
استوكهولم في أغسطس/آب 1948, ثم المؤتمر الدبلوماسي الذي عقد في جنيف بناء
على دعوة من الحكومة السويسرية واستمر من أبريل / نيسان إلى أغسطس/آب 1949.
وفي 12 أغسطس/آب 1949, اعتمد المؤتمر الدبلوماسي اتفاقيات جنيف الأربع لحماية:
- الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان;
- جرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار;
- أسرى الحرب;
- الأشخاص المدنيين.
وتضمنت
الاتفاقيات الأربع مادة مشتركة تتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير
الدولية, ونصت على آليات للرقابة بعد تقنين دور دول الحماية المكلفة
بالحفاظ على مصالح أطراف النزاع. وفضلاً عن ذلك, اعترفت أحكام خاصة بدور
اللجنة الدولية وأكدت حقها في اتخاذ المبادرات.
وكان ذلك
بمثابة نجاح هائل للجنة الدولية , إذ أنه في الوقت الذي كان فيه العالم
منقسما بسبب الحرب الباردة, وكان حصار برلين يستثير الاتحاد السوفياتي على
الغرب, وافق المجتمع الدولي على عقد اجتماع لاعتماد نظام إنساني جديد.
وكان
من الضروري التفكير في تحقيق وحدة الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال
الأحمر, التي تأثرت بشكل عميق بالانقسامات المتولدة عن الحرب الباردة ,
وتثبيت موقف اللجنة الدولية داخل الحركة التي كانت هي مؤسسها.
وكما
سبق القول, فبالرغم من الخدمات الجديرة التي قدمتها اللجنة الدولية طوال
فترة الحرب, فقد وجدت نفسها في موقف الاتهام في الوقت الذي سكتت فيه
الأسلحة. ولذلك, اهتمت في المقام الأول برفض كل قرار بصدد تشكيلها
ومستقبلها إلى أن يحين الوقت لاعتماد اتفاقيات جنيف الجديدة. وفي الواقع,
أكدت تلك الاتفاقيات الولاية التي كلفها بها المجتمع الدولي, كما حسنت
موقفها داخل الحركة, وأدركت الجمعيات الوطنية والرابطة بسهولة أنه لا يمكن
لها دون العدول عن قرارها المساس بوجود واستقلال اللجنة الدولية التي ثبتت
صفتها كهيئة إنسانية غير متحيزة بموجب اتفاقيات جنيف الجديدة. وعليه, فإن
التشكيك في موقف اللجنة الدولية كان يعني التشكيك في دور الحركة الدولية
للصليب الأحمر والهلال الأحمر في تنفيذ القانون الإنساني, أي كان ذلك
بمثابة انتحار.
أما المشروعات التي استهدفت تعديل تشكيل
للجنة الدولية لتعيين ممثلين لمختلف الجمعيات الوطنية فيها, فسرعان ما
هاجمها أولئك الذين كانوا يدافعون عنها, نظراً إلى أنه أضحى من الواضح أن
أي لجنة دولية متعددة الجنسيات ستعكس بدورها الانقسامات الناجمة عن الحرب
الباردة وستشل حركتها بسبب انقساماتها (3).
وكان من مصلحة اللجنة الدولية والرابطة أخيراً تجنب وضعهما تحت رعاية اللجنة الدائمة للصليب الأحمر الدولي .
ولذلك,
فقد اهتمتا بدراسة مشروع مراجعة النظام الأساسي للصليب الأحمر الدولي الذي
اعتمده المؤتمر الدولي الثالث عشر للصليب الأحمر في لاهاي سنة 1928.
وأعدت
لجنة مشتركة بين اللجنة الدولية والرابطة مشروعاً جديداً احتفظ أساساً
بالنظام الأساسي لسنة 1928, وكذلك بتقسيم المهمات بين هاتين المؤسستين.
فاحتفظت الرابطة بصفتها اتحاداً للجمعيات الوطنية بالمسؤولية الأولى لتطوير
الجمعيات الأعضاء, فضلاً عن مسؤولية تنسيق عملياتها المتعلقة بالإغاثة في
زمن السلم. وظلت اللجنة الدولية مسؤولة عن ضمان المبادئ الأساسية للحركة,
كما احتفظت بمسؤولية توفير الحماية والمساعدة لضحايا الحرب والحروب الأهل
ية والاضطرابات الداخلية, واعترف لها بدورها كوسيط محايد, وظلت مكلفة
بتنسيق العمل الدولي للجمعيات الوطنية وقت نشوب النزاعات . ومن أجل
السماح لها بتأدية هذه المهمات, فإنه احتفظ لها بتشكيلها وبطريقة اختيار
أعضائها من بين المواطنين السويسريين.
وبفضل هذه
المشروعات الجديدة للنظام الأساسي, تم تجنب انقسام الحركة, واحتفظت اللجنة
الدولية نفسها المسؤولة عن تنسيق عمليات الصليب الأحمر للإغاثة في حالة
النزاعات المسلحة, بطريقة اختيار أعضائها, وتجنبت بذلك أن تنعكس داخلها
الانقسامات الناجمة عن الحرب الباردة.
بيد أنه ظل من
الضروري أن يوافق المؤتمر الدولي الثامن عشر للصليب الأحمر على مشروعات
النظام الأساسي في الاجتماع الذي عقد في تورونتو سنة 1952. فقد تعرضت
اللجنة الدولية لانتقاد عنيف من حكومات البلدان الشيوعية وجمعياتها
الوطنية, ولامها البعض أيضاً على دورها إبان الحرب العالمية الثانية فضلاً
عن عملها في كوريا, نظراً إلى أنها لم تطور أنشطتها سوى في المناطق التي
كانت تسيطر عليها قوات الأمم المتحدة بعدما رفضت حكومة جمهورية كرويا
الديمقراطية الشعبية خدماتها.
وفي نهاية الأمر, اعتمد
النظام الأساسي المنقح بأغلبية سبعين صوتاً مقابل سبعة عشر صوتاً. وتم
بذلك الحفاظ على وحدة الحركة, غير أن تلك الوحدة كانت سطحية إلى حد كبير,
وهذا ما أثبتته الأيام بعد ذلك.
من حرب كوريا إلى سقوط حائط برلين إن
التحالف الكبير الذي قضى على النازية تحقق بفعل هتلر والحلفاء أنفسهم.
ففي الواقع, سرعان ما اندلعت الانقسامات العميقة التي كانت تفرق بين
الاتحاد السوفياتي وحلفائه الأنجلوسكسونيين في وضح النهار اعتباراً من
مؤتمر بوتسدام الذي عـُقد في خرائب عاصمة الرايخ القديمة.
وذكر
ونستون تشرشل في كلمته الشهيرة التي ألقاها في فالتون (Fulton) في 5
مارس/آذار 1946 أن " ستاراً من الحديد أسدل على القارة الأوروبية من استتنن
(Stettin) على البحر البلطيقي إلى تريستا على البحر الأدرياتيكي " (4).
واستمر ذلك الستار مسدلاً حتى سقوط حائط برلين.
وإزاء عالم منقسم أساساً إلى كتلتين متناحرتين, ما هي إمكانات العمل التي كانت متاحة للجنة الدولية؟
لقد
تبدلت جذرياً من نزاع إلى نزاع آخر. وفي الواقع, إذا كانت كل نزاعات تلك
الفترة قد تأثرت إلى حد ما بالحرب الباردة, إلا أنها لم تتأثر كلها بنفس
الدرجة. فقد نجمت بعض النزاعات عن الحرب الباردة مباشرة, وينطبق ذلك خاصة
على حرب كوريا التي ترتبت على تقسيم شبه الجزيرة إثر هزيمة اليابان إلى
منطقتي احتلال, كما انطبق ذلك إلى حد كبير على حرب الهند الصينية وعلى حرب
فييتنام. ونجمت بعض النزاعات الأخرى أساساً عن أسباب داخلية, غير أنها
عكست انقسامات الحرب الباردة, إذ سعى معسكر للتحالف مع الغرب في حين استند
الطرف المعادي إلى الاتحاد السوفياتي وحلفائه. وقد كان ذلك الحال على
الأخص بالنسبة إلى النزاعات العربية الإسرائيلية خلال السنوات 1956 و 1967 و
1973, وتشهد أغلبية نزاعات تلك الفترة على هذه الانقسامات بدرجات مختلفة.
وفي بعض الحالات أخيراً, استطاع المتحاربون الوقوف في معزل عن الحرب
الباردة, مثلما حدث في النزاعات بين الهند وباكستان في 1965 و 1971, أو
أثناء الحرب في جزر فوكلاند سنة 1982.
وكانت إمكانات
عمل اللجنة الدولية متوقفة إلى حد كبير على تلك الحالات المختلفة. وفي
الواقع, فإن الاتحاد السوفياتي وحلفاءه, وإن كانت أطرافاً في اتفاقيات جنيف
لعام 1949, لم تقبل قبولا حقيقياً في أي وقت ولاية اللجنة الدولية, وخاصة
المبادئ الأساسية التي كانت اللجنة كفيلاً لها, ألا وهي الإنسانية والحياد
وعدم التحيز. فتبعاً لوجهة النظر الماركسية اللينينية المتطرفة, ليس هناك
أي مجال للحياد وعدم التحيز, ولا يمكن بأي حال من الأحوال وضع جميع الضحايا
في ميزان واحد. ولا يمكن أن يكون هناك بين الشيوعية والرأسمالية من جهة,
وبين " القوى التقدمية " و " الرجعية " من جهة أخرى سوى مصالح متناقضة لا
تدع أي مجال لاحتمال وجود وسيط محايد بينها.
وبالرغم من
الجهود التي بذلتها اللجنة الدولية للابتعاد عن كتلة الحلف الأطلسي – لا
سيما بالنسبة إلى مسألة أساسية مثل حظر الأسلحة النووية – فإن الاتحاد
السوفياتي وحلفاءه استمروا في النظر إليها كما لو كانت تنتمي إلى الكتلة
البرجوازية الرأسمالية, أي بعبارة أخرى تنتمي إلى العدو.
ولا
عجب إن عجزت اللجنة الدولية في مثل تلك الظروف عن أداء دورها كوسيط محايد
أثناء حروب الهند الصينية أو كوريا أو فييتنام , بعد ما استبعدت هانوي
وبيونغ يانغ خدماتها.
ومن مفا رقات الأمور الاعتراف من
جديد بدور اللجنة الدولية كوسيط محايد عند نشوب النزاع في فبراير/ شباط
1979 بين دولتين شيوعيتين هما الصين وفييتنام. ففي تلك المناسبة , سمح
لمندوبي اللجنة الدولية بزيارة أسرى الحرب الفيتناميين الذين احتجزتهم
الصين والأسرى الصينيين الذين اعتقلتهم القوات الفيتنامية, كما صرح لهم
بالاشتراك في إعادة الأسرى إلى أوطانهم.
غير أن أعمال الإغاثة في كمبوديا أسهمت أكثر من غيرها في استعادة اللجنة الدولية لموقفها غير المتحيز في البلدان الشيوعية.
إننا
نتذكر في الواقع أن التدخل الفيتنامي الذي حدث في يناير/ كانون الثاني
1979 قد أدى إلى إسقاط نظام الخمير الحمر, وإلى إقامة حكومة موالية الحكومة
الفيتنامية في (بنوم بنه) لم يعترف بها سوى الاتحاد السوفياتي وحلفائه.
بيد أن كمبوديا كانت تعرضت لخراب شديد, الأمر الذي سرعان ما اضطر هانوي إلى
الإقرار بأنه ليس في مقدورها أن تتحمل مسؤولية إنهاض البلد الذي وقع تحت
حمايتها. فوافقت هانوي و (بنوم بنه) بعد كثير من التردد على الخدمات التي
عرضتها اللجنة الدولية ومؤسسة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونسيف) .
وأعدت المؤسستان ونفذتا واحدة من أهم عمليات الإغاثة, وأسهمتا بذلك إسهاما
حاسما في إنعاش البلد اقتصادياً. وما من شك في أن اللجنة الدولية تمكنت
بهذه المناسبة من التغلب على خلافات الحرب الباردة, ونجحت تماماً في أداء
دورها كوسيط محايد بين الغرب الذي قدم 99% من الموارد الضرورية لأعمال
الإغاثة من جهة, ونظام (بنوم بنه) الماركسي من جهة أخرى (5).
بيد
أن الحرب الباردة جرت اللجنة الدولية إلى الوقوع في أكثر من فشل, حيث أنها
لم تتمكن من إعانة الأسرى الفرنسيين الذين اعتقلوا إبان حرب الهند
الصينية, وأسرى قوات الأمم المتحدة الذين وقعوا في قبضة القوات
الفيتنامية. كما أنها لم تتمكن من مساعدة السكان المدنيين الذين تضرروا
ضرراً شديداً من أهوال الحرب والقصف. وطوال ما يزيد على ثلاثين سنة, رفض
مجموع بلدان الكتلة الشيوعية أن تقوم بدورها كوسيط محايد في النزاعات
وتدافع عن المبادئ التي يستند إليها عملها. وفضلاً عن ذلك , لم تتمكن
اللجنة الدولية نفسها من الابتعاد عن الغرب بما فيه الكفاية بشأن بعض
القضايا الساخنة مثل القصف الأمريكي في فييتنام ولاوس وكمبوديا.
ويجب
التسليم بصفة عامة بأن القانون الإنساني لم يحترم بالقدر الكافي خلال تلك
النزاعات, نظراً إلى إدعاء كل طرف من الأطراف بشن حرب عادلة يعفيه من
مراعاة القواعد الإنسانية إزاء أعدائه.
وخلال تلك الفترة
بالذات, لم تتأثر بعض النزاعات الأخرى بنفس الدرجة من عواقب الحرب
الباردة. وكان ذلك الحال خاصة بالنسبة إلى مختلف النزاعات العربية
الإسرائيلية (1948-1949, 1956 و 1967 و 1973) أو بالنسبة إلى النزاعات بين
الهند وباكستان (1947 و 1965 و 1971). فخلال تلك النزاعات, اعترفت الأطراف
عموماً بوضع اللجنة الدولية وبدورها كوسيط محايد, مما مكنها من نقل وإبلاغ
قوائم بأسماء الأسرى المعتقلين في كل معسكر أو أشرفت على تسجيل أسمائهم.
وعلاوة على ذلك, تمكن مندوبوها من مقابلة أسرى الحرب والمحتجزين المدنيين
في أماكن الحجز والتحدث دون أي رقيب مع الأسرى الذين وقع الخيار عليهم.
كما طلب إليهم تقديم مساعيهم الحميدة لإعادة معوقي الحرب إلى أوطانهم خلال
الأعمال العدائية أو الإشراف على الترحيل العام للأسرى إلى أوطانهم عند
انتهاء الأعمال العدائية. وأعدت الوكالة المركزية للبحث عن المفقودين
برنامجاً لتبادل الأخبار بين أفراد العائلات المشتتة بسبب الحرب, وأشرفت
على لم شمل أفراد عائلات عديدة. ووضعت اللجنة الدولية برنامجاً واسع
النطاق لإغاثة أسرى الحرب والمعتقلين والسكان المدنيين وتوفير المواد
الطبية والغذائية لهم, في الوقت نفسه الذي أشرفت فيه على تنسيق أعمال
الإغاثة الدولية التي اضطلعت بها الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال
الأحمر لمساعدة ضحايا الحرب.
وكان ذلك هو الحال خاصة
عندما قامت الثورة الهنغارية (1956) وأثناء أزمة السويس (1956-1957),
والحرب الأهلية التي اندلعت في الكونغو البلجيكية سابقاً (وزائير حالياً)
غداة الاستقلال (1960), والحرب الأهلية اليمنية (1962-1970), والحرب
النيجيرية (1967-1970), والعدوان الثلاثي على مصر (1956), والحرب الأهلية
في الأردن (سبتمبر/أيلول 1970), والنزاع الثالث بين الهند وباكستان
(ديسمبر/كانون الأول 1971), والنزاع العربي الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين
الأول 1973, والحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990), والنزاعات التي نشبت
في نيكاراغوا (1978-1989) وفي السلفادور (1979-1990) وحالات عديدة أخرى.
واستعانت
اللجنة الدولية أثناء كل نزاع من النزاعات السالف ذكرها بالجمعيات الوطنية
للصليب الأحمر والهلال الأحمر. وبالإضافة إلى مهماتها المحددة والمترتبة
على د ورها كوسيط محايد, تكفلت بتنسيق أعمال الإغاثة التي قامت بها
الجمعيات الوطنية. وشاركت الرابطة بحماس في العديد من تلك العمليات ,
وتركت اللجنة الدولية تتحمل الإدارة العامة للعمل الدولي للصليب الأحمر
والهلال الأحمر وفقاً للقواعد السارية.
غير أن أشكالاً
جديدة من النزاعات كانت قد ظهرت في تلك الفترة نتيجة لانهيار الإمبراطوريات
الاستعمارية . وفي أغلب الحالات, لم يكن بوسع حركات التحرير الوطني التي
كانت تناضل في سبيل استقلال الشعوب المستعمرة أن تواجه القوات المسلحة
للدول الاستعمار بصورة علنية, بل كان عليها أن تتواري بين صفوف الأهالي
المدنيين وأن تستخدم وسائل حرب العصابات.
وهذه الأشكال
الجديدة للنزاعات شككت جدياً في أسس القانون الإنساني بدءاً بمبدأ التمييز
بين المحاربين والأهالي المدنيين, مما أدى إلى صعوبة قيام اللجنة الدولية
بدورها كوسيط محايد نظرا إلى أن الخصوم لجأوا إلى وسائل وسبل للقتال مختلفة
تمام الاختلاف. وفضلا عن ذلك, فإن الدول الاستعمارية اعتبرت لفترة طويلة
النزاعات التي نشبت في مستعمراتها كما لو كانت من الشؤون الداخلية المحضة
وتدخل في اختصاصها الوطني وحده.
ومع ذلكن فقد عرضت
اللجنة الدولية خدماتها على أطراف النزاع, استناداً إلى المادة الثالثة
المشتركة بين اتفاقيات جنيف لسنة 1949. وفي العديد من الحالات, تمكنت من
إعداد برامج مهمة للعمل, لا سيما لحماية أفراد حركات التحرير الذين
اعتقلتهم القوات المسلحة للدول الاستعمارية. وكان ذلك هو الحال على الأخص
أثناء حرب الجزائر (1954 –1962), وحرب الاستقلال في كينيا (1956),
والاقتتال الذي نشب في المستعمرات البرتغالية في أنغولا وموزامبيق
وروديسيا/ زمبابوي وناميبيا وجنوب أفريقيا.
وبغض النظر
عن إدارة الأنشطة الميدانية للجنة الدولية , أثارت تلك النزاعات مسألة
ملاءمة القانون الدولي الإنساني مع حروب التحرير الوطني وحرب العصابات, مما
أدى إلى ضرورة إعادة النظر في القانون الإنساني.
من اتفاقيات جنيف لسنة 1949 إلى بروتوكوليها الإضافيين أدرت
اللجنة الدولية تماماً فور اعتماد اتفاقيات جنيف الجديدة الفارق الذي كان
يفصل بين " قانون جنيف " الذي تم تعديله كلياً في سنة 1949 من جهة, و
القواعد المتعلقة بإدارة الأعمال العدائية, أو " قانون لاهاي " , من جهة
أخرى, والتي ظلت على حالها منذ انعقاد المؤتمر الدولي الثاني للسلم في
لاهاي سنة 1907.
فقد ثارت بشدة مسألة حماية الأهالي
المدنيين من آثار الأعمال العدائية خاصة, إذ أن أغلب المناطق السكانية
الكبرى في أوروبا وآسيا كانت لا تزال تحمل آثار القصف الذي تحملته طوال
الحرب العالمية الثانية, كما أن الدمار الذي لحق بمدينتي هيروشيما
وناجازاكي كان يبرز بما فيه الكفاية الويلات التي تهدد مستقبل البشرية.
ولذلك,
أجرت اللجنة الدولية مشاورات جديدة مع فريق من الخبراء أعدت في ختامها
مشروع قواعد تحد من الأخطار التي يتعرض لها السكان المدنيون في زمن الحرب.
وكان
المشروع طموحاً للغاية, بل كان يمثل بلا شك أحد النصوص الأكثر تطوراً التي
اقترحت لحماية الأهالي المدنيين. ففي الواقع قضت المادة 14 من المشروع
بحظر أي استعمال للأسلحة التي " يكون من شأن مفعولها الضار – لاسيما عن
طريق نشر العوامل المحرقة أو الكيميائية أو البكتيرية أو المشعة أو خلافها
– أن يمتد على نحو طارئ أو يفلت في الفضاء أو في الزمن من رقابة من
يستعملونها ويعرض السكان المدنيين بذلك للخطر " . (6).
وكان
ذلك يعني حظر أي استعمال للأسلحة النووية, مما دعا إلى فشل مشروع
القواعد. فعندما عرض هذا المشروع على المؤتمر الدولي التاسع عشر للصليب
الأحمر في نيودلهي في نوفمبر/ تشرين الثاني 1957, تعرضت المادة 14 لهجوم من
كل الجهات, إذ اعتبر الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه أن مشروع اللجنة الدولية
مشروع " جبان " للغاية لأنه لا يتضمن أي إدانة شاملة للأسلحة النووية, في
حين أن الدول الغربية نددت بالطابع الوهمي للحظر الذي لا يفرض عليه أي
تدبير رقابي. ولما لم يكن بمقدور المؤتمر أن يستبعد مشروعاً تنظيمياً تتضح
أهميته الإنسانية تمام الوضوح, دون العدول عن قراره, فقد اعتمد قراراً دعا
فيه اللجنة الدولية إلى عرض اقتراحها على الحكومات. وانتهى الأمر بذلك في
الواقع.
وترتب على ذلك الفشل أن أصيبت مبادرة اللجنة الدولية بالشلل في مجال تطوير القانون الإنساني طوال سنوات عديدة.
ومن
ثم, انبعث الأمل من جانب آخر. فمن جهة, شعرت البلدان التي استقلت بعد سنة
1949 بأنها مرتبطة بقواعد إنسانية لم تشترك في إعدادها. ومن جهة أخرى ,
رأى كثيرون أ ن اتفاقيات جنيف, وعلى الأخص القواعد المتعلقة بتسيير الأعمال
العدائية, لا تناسب الأشكال الجديدة للنزاعات , وخاصة حروب التحرير الوطني
وحرب العصابات.
وهذه المطالبة الثنائية اتضحت بقوة في إطار الأمم المتحدة, وعلى الأخص عند انعقاد المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان في طهران سنة 1968.
ولذلك,
انكبت اللجنة الدولية من جديد على مسألة تطوير القانون الدولي الإنساني ,
وأعلنت أنها ستباشر تنقيح القانون من جديد, انطلاقاً من تخوفها من إسناد
اختصاصاتها واختصاصات الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر في ذلك
الشأن لمنظمة سياسية , هي الأمم المتحدة.
ولهذا الغرض,
عقدت اللجنة الدولية في 1971 و 1972 مؤتمرين لخبراء الصليب الأحمر والهلال
الأحمر , بالإضافة إلى مؤتمرين للخبراء الحكوميين.
وتبين
على الفور أنه ليس من الصواب " إلغاء " اتفاقيات سنة 1949 لأنه لم يكن
هناك ما يفيد أن المجتمع الدولي سيتوصل إلى التفاهم حول أحكام جديدة. ولم
تكن الاتفاقيات في حد ذاتها موضع نقاش, بل كان الأمر يتعلق بسد ثغراتها.
وبطبيعة الحال, تم التفكير بالتالي في اعتماد بروتوكولين إضافيين لهذه
الاتفاقيات.
وعرضت المشاريع التي أعدتها اللجنة الدولية
عقب المشاورات التي جرت في 1971 و 1972 على المؤتمر الدبلوماسي لتأكيد
وتطوير القانون الدولي الإنساني المطبق في المنازعات المسلحة, والذي دعت
إلى عقده الحكومة السويسرية بصفتها دول إيداع اتفاقيات جنيف. وعقد المؤتمر
أربع دورات من سنة 1974 إلى سنة 1977, واعتمد بروتوكولين إضافيين
لاتفاقيات جنيف لسنة 1949.
ويستهدف البروتوكول الأول
تعزيز حماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية, في حين يستهدف البروتوكول
الثاني تعزيز حماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية.
وتتمثل الميزة الرئيسية للبروتوكولين الإضافيين في تقنين قواعد تتعلق بحماية الأهالي المدنيين من آثار الأعمال العدائية.
وبذلك, سدت " ثغرة " اتفاقيات سنة 1949 التي ندد بها الوفد السوفياتي بشدة.
ومن
المفارقات الشائعة في التاريخ أن الحكم الذي آثار أكثر المناقشات حدة
وقارن حروب التحرير الوطني بالنزاعات المسلحة الدولية ظل دون أي تطبيق عملي
حتى يومنا هذا.
من المؤتمر الدولي الثامن عشر إلى المؤتمر الدولي الخامس والعشرين للصليب الأحمر والهلال الأحمر (1952 - 1986) بالرغم
من الحياد السياسي الذي اعترفت به الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال
الأحمر كأحد مبادئها الأساسية, فإن الحركة لم تتمكن من الابتعاد عن
المجادلات والانقسامات الناجمة عن الحرب الباردة.
ولوحظ
ذلك خلال المؤتمر الدولي الثامن عشر للصليب الأحمر الذي عُـقد في تورونتو
سنة 1952, والذي سيطرت عليه سيطرة كاملة المشاعر التي أثارتها حرب كوريا.
أما المؤتمر التالي الذي عُقد سنة 1957 في نيودلهي , فإنه انقسم للأسف حول
مسألة سياسية محضة, هي مسألة تمثيل الصين.
وبالرغم من
النظام الأساسي الجديد للصليب الأحمر الدولي, الذي اعتمد في تورونتو, فإن
الصليب الأحمر الدولي كان على وشك الانقسام والتفرق.
وكانت
تلك الانقسامات تكشف عن الضرورة العاجلة للتفاهم حول صياغة بعض المبادئ
الأساسية المقبولة عالمياً, والتي تحدد الاتجاهات السياسية للحركة, وتكمل
في هذا الشأن النظام الأساسي الذي تمثل غرضه الأساسي في تعريف وتحديد
العلاقات بين المؤسسات التي تتكون منها الحركة.
ولهذا
الغرض, ألفت اللجنة الدولية والرابطة لجنة مشتركة استفادت فائدة كبرى من
البحوث المرموقة التي أعدها ماكس هوبر وجان بكتيه, وتوصلت إلى صياغة سبعة
مبادئ أساسية أقرها باتفاق الآراء مجلس المندوبين الذي اجتمع في براغ سنة
1961, ثم اعتمدها المؤتمر الدولي العشرون للصليب الأحمر عند انعقاده في
فيينا سنة 1965.
وتعتبر هذه المبادئ في الحقيقة الميثاق
الأساسي للحركة. وتعترف جميع مؤسسات الصليب الأحمر والهلال الأحمر بقوتها
الإلزامية, بل لم تكن أبدا محل أي تنقيح جدي لأن السلطة المعنوية للمبادئ
الأساسية تنشأ أيضاً من الاعتراف بها من حيث الزمن.
وكان ذلك الميثاق الأساسي ضرورياً نظراً إلى أن وحدة الحركة كانت لا تزال مهددة من جراء انقسامات الحرب الباردة.
ومن
مفارقات الأمور أن الصليب الأحمر تعرض للانهيار والتفتت بسبب مسألة السلم,
إذ أن الجمعيات الوطنية التابعة للبلدان الاشتراكية استرشدت بالمنهج الذي
اتبعته الحكومة السوفياتية, وحاولت تحويل الصليب الأحمر إلى ندوة للتنديد
بالاعتداء الذي كان بالطبع من فعل " الدول ا لرأسمالية " . وإذا كان من
البديهي ألا يتردد الصليب الأحمر في إدانة أي اعتداء, فإن من المؤكد أن
تندد الحركة بأي حكومة معتدية دون أن تنقسم على نفسها ودون أن تتنكر
لمبادئها الأساسية. وفضلاً عن ذلك, كان من البديهي أن الصليب الأحمر لم
يكن في مقدوره البت في منشأ النزاعات المسلحة دون الإضرار بالإمكانات
المتاحة له لإغاثة ضحايا هذه النزاعات.
وكانت تلك
المبادرات تهدد كلا من الرابطة واللجنة الدولية. ولكن, لما لم يكن في
مقدور أمانة الرابطة أن تناصر طرفاً في مجادلة بين جمعيتين من الجمعيات
الأعضاء, فإن اللجنة الدولية المسؤولة أساساً عن حماية المبادئ الأساسية
للصليب الأحمر والهلال الأحمر هي التي اجتهدت بمساعدة بعض الجمعيات الوطنية
في تثبيت وحدة الحركة. وقد توصلت إلى ذلك بعدما دللت على أنه للحصول على
المصداقية اللازمة يجب اعتماد أي قرار يتعلق بالسلم باتفاق الآراء. واحتفظ
بالتالي بوحدة الحركة وأوضحت المبادرات ذات القاسم المشترك مقبولة للجميع.
وقاوم
النظام الأساسي للصليب الأحمر الدولي الذي نقح سنة 1952 في مؤتمر تورونتو
محن الزمن, إذ أن الجمعيات الوطنية التابعة للبلدان الاشتراكية التي كانت
قد صوتت ضد اعتماده بسبب الدور الذي اعترف به النظام الأساسي للجنة الدولية
ساندته في نهاية الأمر. غير أن مجلس حكام الرابطة طلب في أبريل/ نيسان
1982 إعادة تنقيح النظام الأساسي للصليب الأحمر الدولي . وانصبت التعديلات
المقترحة أساساً على المصطلحات, إذ أن عبارة الصليب الأحمر الدولي استعيض
عنها بعبارة الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر , لأنها كانت
تبدو أكثر مطابقة لمبدأ المساواة بين الجمعيات الوطنية . ولم تعدل مع ذلك
مسألة الموارد المالية وتوزيع المهمات بين عناصر الحركة . واعتمد النظام
الأساسي باتفاق الآراء في المؤتمر الدولي الخامس والعشرين للصليب الأحمر
الذي انعقد في جنيف في أكتوبر/ تشرين الأول 1986.
اللجنة الدولية للصليب الأحمر وحفظ السلم تنجم
الحرب الباردة من الصدام الأيديولوجي بين نظامين اقتصاديين وسياسيين
متناقضين تماماً. وقد ظهرت في شكل نزاعات متتالية امتدت على كل خطوط
الانقسام بين هاتين الكتلتين, أي في كوريا والهند الصينية والشرق الأوسط
وأفريقيا الجنوبية.
وكانت هنا أيضاً منافسة دائمة بين
قوتين عسكريتين, هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي, كانت مخازنهما
النووية تضمن لهما الغلبة التي لم يكن بمقدور الدول الأخرى المنازعة فيها,
وكانت تتوفر لهما وسائل هائلة للبطش أحدهما بالآخر وجر الإنسانية جمعاء في
دمارهما المتبادل.
وخلال أكثر من أربعين سنة , عاش
العالم تحت التهديد الدائم لهذا الانتحار الجماعي. وصرفت موارد مادية ضخمة
واستغلت مواهب المخترعين من أجل تحسين المخازن النووية وحفظ التوازن الذي
كان يتوقف عليه صون السلم ومستقبل الإنسانية.
وإذا لم
يبرز التهديد بالدمار النووي إلا في حالات نادرة , أثناء أزمة السويس وحرب
أكتوبر / تشرين الأول مثلا, إلا أنه كان دائما في حسابات رجال الاستراتيجية
ورجال السياسة.
غير أن العالم كان على قاب قوسين من خطر
اندلاع الحرب العالمية الثالثة حقاً بمناسبة أزمة الصواريخ في كوبا في
أكتوبر / تشرين الأول 1962, عندما قرر الرئيس كيندي الاعتراض بالقوة عند
الضرورة على إقامة صواريخ سوفياتية في كوبا, إذ كان من شأن ذلك فقدان
التوازن الاستراتيجي بين الكتلتين وتهديد المدن الأمريكية تهديداً خطيراً.
وفي أول الأمر, أعلن رئيس الولايات المتحدة فرض حصار على الجزيرة واصدر
أوامره للقوات البحرية الأمريكية لاعتراض السفن السوفياتية التي كانت في
طريقها إلى كوبا وكان من المشكوك فيه أنها تحمل صواريخ استراتيجية, الأمر
الذي اعتبره الاتحاد السوفياتي غير مقبول وقدمه كسبب للحرب.
وحبس العالم أنفاسه بينما كان يتابع تحرك السفن الروسية والأمريكية على الخرائط البحرية.
وفي
نهاية الأمر, تمكن يوثانت (U Thant) الأمين العام للأمم المتحدة, من حل
الأزمة بعدما اقترح أن يراقب مفتشون محايدون ومقبولون من كلا الطرفين السفن
السوفياتية التي كانت في طريقها في المحيط الأطلنطي للتأكد من أنها لا
تحمل صواريخ أو قنابل ذرية.
وبعد إجراء استبعادات متتالية, انتهى الأمر بدعوة اللجنة الدولية إلى مباشرة تلك الرقابة.
وبالرغم
من أن تلك المهمة كانت تتجاوز بكثير الولاية التقليدية للجنة الدولية ,
إلا أنها رأت أنه لا يجوز لها أن تتهرب من تلك المهمة في الوقت الذي كان
فيه مستقبل ا لإنسانية في خطر. فوافقت بالتالي على اختيار مفتشين محايدين
شرط موافقة الدول الثلاث المعنية مباشرة بالقضية عليهم, أي الولايات
المتحدة والاتحاد السوفياتي وكوبا.
وشرعت اللجنة الدولية في اختيار هؤلاء المفتشين عندما بلغها أن السفن السوفياتية كانت في طريقها إلى العودة إلى موانئها الأصلية (7).
وتم
بذلك حل الأزمة, غير أنه يجب علينا أن نتذكر أنه في الوقت الذي كانت فيه
الحرب الباردة تهدد العامل بدمار نووي, استدعى الأمر اللجوء إلى اللجنة
الدولية على أساس أنها المؤسسة الوحيدة التي تعترف واشنطن وموسكو بحيادها
وعدم تحيزها.
من سقوط حائط برلين إلى الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك انهار النظام الثنائي القطب الناجم عن الحرب العالمية الثانية بسقوط حائط برلين, ثم بانهيار الاتحاد السوفياتي.
ولكن للأسف, فإن نهاية الحرب الباردة لم تتسبب في التهدئة العامة التي كان مأمولا فيها.
فقد
هدد احتلال الكويت ثم نشوب حرب الخليج الثانية استقرار العالم تهديداً
خطيراً . ولكن نجم عن نهاية الحرب الباردة خاصة اندلاع عدد كبير من
النزاعات التي لم تكن لتحدث في الوقت الذي كانت فيه القوتان العظميان
تحتفظان بالرقابة على امبراطورياتهما. ففي يوغوسلافيا والقوقاز وآسيا
الوسطى, اندلعت صراعات كانت خامدة لوقت طويل, مما أدى إلى تفاقم مشاعر
الكره والعنف.
وسرعان ما تشقق الطلاء الأيديولوجي الذي
كان يخفي العديد من النزاعات الأكثر قدماً, فتكشفت الأسباب الداخلية التي
أهملت في السابق , مثل الحروب الدينية والمواجهات الإثنية إلخ. وحاول
المتحاربون الذين توقف اعتمادهم على التمويل الخارجي تمويل حروبهم بابتزاز
المال من السكان وبالمشاركة في أعمال اللصوصية وتجارة المخدرات وغير ذلك من
أعمال إجرامية تقع في اختصاصا القانون العام.
وفضلاً عن
ذلك, كانت الحرب الباردة تفرض نزاعات ثنائية القطب بغض النظر عن الأسباب
الحقيقية للنزاعات, نظراً إلى أن كل طرف كان يبحث عن مساندة إحدى
الكتلتين. وقد اختفى حالياً ذلك الضغط الخارجي, مما أدى إلى تعدد الأحزاب
والفصائل المتحاربة.
وفي بعض الحالات, تفسخ بناء الدولة
برمته, وأدى انهيار الدوائر الحكومية وقوات حفظ الأمن العام إلى إفساح
المجال لتكاثر العصابات والفصائل المتناحرة, وحل المجرمون محل رجال
السياسة. وعندما عمت الفوضى والبلبلة أصبحت المؤسسات الإنسانية رهائن
للعصابات المسلحة التي اعتادت على فرض إتاوات على الأهالي.
وهكذا,
تجد اللجنة الدولية نفسها في موقف مناقض لا تحسد عليه. ففي الوقت الذي
اتسع نطاق قبولها أكثر من أي وقت مضى, فإنها تواجه مصاعب تشل حركتها في
أغلب الأحيان. ويستنجد بها المسؤولون السياسيون, ولكنهم لا يستطيعون ضمان
أمن مندوبيها وقوافلها.
وعلى الرغم من هذه المصاعب,
استمرت عمليات اللجنة الدولية في التطوير وبلغت حجما لا سابق له. ففي
الوقت الحاضر, تعمل اللجنة الدولية في عدد أكبر من مسارح العمليات, ويمثلها
فيها عدد أكبر من المندوبين, وأشرفت على توزيع كميات أكبر من مواد الإغاثة
بالمقارنة بأي فترة أخرى, حتى بالنسبة إلى الحرب العالمية الثانية.
ولا
شك في أن احتراف مندوبيها يحظى باحترام الجميع وبلغت مصداقيتها
الدبلوماسية درجة عالية كما يشهد على ذلك مركزها كمراقب دائم, وهو المركز
الذي منحته لها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 أكتوبر/ تشرين الأول
1990. كما اعترفت تماماً باختصاصاتها في مجال تطوير القانون الإنساني.
ومن
مفارقات الأمور أنه في الوقت الذي أصبحت فيه الطاقة الميدانية والمصداقية
الدولية للجنة الدولية أقوى من أي وقت مضى, فإنها أصبحت محل الشك داخل
الحركة كما كان الحال عقب الحرب العالمية الأولى وبصورة أكبر عقب الحرب
العالمية الثانية. وأخرج البعض من أدراج الماضي المشروع الرامي إلى وضع
اللجنة الدولية والرابطة تحت وصاية لجنة من الجمعيات الوطنية, ودافع البعض
من جديد عن فكرة إدماج اللجنة الدولية والاتحاد في مؤسسة واحدة إذا لم
يطالب بحل اللجنة الدولية بلا قيد ولا شرط. ولم يعد توزيع المهمات
والاختصاصات الذي أقره النظام الأساسي المنقح في سنة 1986 موضع الاحترام,
بل صرح البعض أن دورها كوسيط محايد لم يعد له أي مبرر ما دامت الحرب
الباردة قد انتهت.
وقد يكون من السذاجة وضع هذه الهجمات والانتقادات على حساب الغيرة وحدها, ولو أن لها ضلعاً في هذا الشأن دون أي شك.
وعلى
المؤرخ من جهته أن يلاحظ أن ولاية اللجنة الدولية التي هي ثمرة التاريخ
كانت محل البحث في كل فترة من فترات التحولات الكبرى. فقد كان ذلك هو
الحال في سنة 1919 وبصورة أكبر في سنة 1945. ومما لا شك فيه أننا نمر
اليوم بمرحلة جديدة من التحولات الكبرى نتيجة لانتهاء الحرب الباردة والبحث
عن توازن عالمي جديد. ويكشف التاريخ أيضاً أن هذه الانتقادات التي تعرضت
لها اللجنة الدولية قد أضرت ضرراً خطيراً بوحدة الحركة الدولية للصليب
الأحمر والهلال الأحمر.
وعلى العكس, فإن الوضع الحالي
يختلف عن الأزمات السابقة في نقطة أساسية. ففي أعقاب الحرب العالمية
الأولى والحرب العالمية الثانية, كان الصليب الأحمر بلا منازع المنظمة
الإنسانية الدولية الأولى, بل الوحيدة عملياً.
ولم يعد
الحال كذلك اليوم. وينبغي لذلك أن تتفهم الحركة أنه لا يجوز لها الدخول في
خلافات داخلية دون زعزعة موقفها الدولي. فثمة مؤسسات أخرى قد اكتسبت درجة
من الحرفية والنوعية تسمح لها بالحلول محل حركة منقسمة, فضلاً عن أن
المنظمات الدولية الحكومية وبلداناً عديدة تطمح اليوم إلى إدارة عملياتها
الإنسانية بنفسها.
ولذلك, حان الأوان لكي تستعيد الحركة
الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر تماسكها, وتراعي لهذا الغرض تكاملية
اختصاصات المؤسسات التي تكونها, حتى تكرس جهودها بعزم وثبات لحل تحديات
المستقبل. وهذا هو ما يحتاجه العالم اليوم احتياجاً ماساً.