يرزح
الإنسان العصريّ تحت وطأة نمط الحياة السريع ومتطلّباتها الضاغطة. وغالباً
ما تعتريه مشاعر حزن أو كآبة أو يأس أو حتى غضب، يعبّر عنها حيناً ويكتمها
أحياناً. ذلك أنّ المرء هو كتلة من الأحاسيس والمشاعر، ولا بدّ له من أن
يجد متنفّساً، بعيداً عن الطلبات والأوامر والواجبات والأعمال والمسؤوليات.بيد
أنّ كلّ شخصيّة مختلفة عن سواها. ففيما يجد البعض أنّ التعبير هو خير
علاج، فيلجأون إلى الكلام عمّا يقضّ مضاجعهم ويزعجهم، أو ينفّسون بطريقة
أخرى كالبكاء أو الصراخ أو ممارسة الرياضة أو السفر، نجد أنّ قسماً آخر
يكبت مشاعره تماماً ولا يعبّر مطلقاً عن إستيائه، بل ينعزل ولا يتكلّم،
ظناً منه أنّ التكابر والتجبّر دليل مسؤولية أو نضج أو رجولة!الغضب
حالة طبيعية يمرّ بها كلّ إنسان خلال نهاره، لكن طريقة التعبير عنه
وعواقبه تختلف من شخص إلى آخر، لكن لا بدّ من أن يظهر في نهاية المطاف
بطريقة أو بأخرى.
يتكلّم الدكتور دوري هاشم،
إختصاصيّ الطبّ النفسيّ ورئيس اللجنة الطبّيّة في مستشفى الصليب في لبنان،
عن الغضب عموماً وعن نوبات الغضب وأسبابها. كما يتطرّق إلى الشقّ العلاجيّ
وكيفيّة السيطرة على الذات. ومن جهتها تشرح الإختصاصيّة في علم النفس رسيل غزّاوي طرق التعبير عن الغضب عند مختلف الناس وعن عواقب الأمر وذيوله.
بادئ ذي بدء، إنّ الغضب شعور طبيعيّ يخالج الناس جميعاً. إلاّ أنّ طريقة
تعامل كلّ إنسان مع هذه الحالة تظهر جليّة أثناء التعبير عن هذا الشعور
الداخليّ. بالإجمال، يتقيّد كلّ أفراد المجتمع بمعايير محدّدة تكوّن الصورة
الإجتماعيّة العامة. وعندما يتخطّى أحدهم الهامش المقبول يظهر فاقداً
للسيطرة على أعصابه وتصرّفاته.
وفيما يتمتّع البعض بالقدرة على
التعبير عن شعور الغضب بشكل طبيعيّ كالكلام أو البكاء، يعمد آخرون إلى
السيطرة التامة الظاهريّة، عبر كبت كلّ المشاعر وعدم إظهارها للعيان، الأمر
الذي قد يغشّ الناظر فيعتبر أنّ في الأمر قوّة شخصيّة، فيما تكون العواقب
وخيمة جسدياً ونفسياً. فإحترام حدود المجتمع وتقديم العادات والحدود على
حساب المشاعر والأحاسيس ليسا بأمر حسن، وإنما له إنعكاسات لا تُحمد عقباها.
حالات غضبيقول
الدكتور هاشم: «من الصعب إعطاء تعريف مقتضب للغضب، إذ إنّ معالمه ليست
معمّمة على الجميع بشكل نمطيّ. بل هو ببساطة شعور داخليّ قد يمرّ به كلّ
شخص في أيّ وقت . لكن لا بدّ من التنفيس عنه بطريقة ما كي لا يؤثّر سلباً
على الحالة النفسية والجسدية والحياتية».
هذا ليس بمرض نفسيّ أو حالة
شاذة، بل هو إحساس تختلف حدّة التعبير عنه حسب الشخص. يرى هاشم أنّ «الناس
عموماً قد يلجأون إلى التفسير أو التعبير عن أحاسيسهم ومشاعره ليرتاحوا،
وهذا مقبول إجتماعياً. لكن بعض الأشخاص سريعو الغضب وتكون ردّات فعلهم
مبالغاً بها، وهذا ما يُعرف بنوبة الغضب أو Anger Attack. ومردّ ذلك هو
إمّا طبع المرء وإمّا تراكم الضغوط عليه، فيعمد إلى «فشّة الخلق» هذه. إلاّ
أنّ بعض الذين يغضبون بسرعة وحدّة قد يتسبّبون بنفور المحيطين منهم وبخلق
صورة بشعة عن طباعهم، ما يستدعي القيام بالسيطرة الذاتية أي Anger
Management».
أسباب متنوّعة وأعراض مختلفةكثيرة
هي مسبّبات الضغط في الحياة. ولعلّ أبرزها ضغوط العمل ومتطلّبات تأمين
لقمة العيش والمسؤوليات العائلية والواجبات الإجتماعية ونمط الحياة السريع
وقلّة الضمانات، إضافة إلى الملل والروتين اليوميّ. يقول الدكتور هاشم «إنّ
كلّ هذه الأسباب كفيلة بتوليد شعور الغضب عند الإنسان. وبعض الشخصيّات
المرضيّة أكثر عُرضة من سواها لنوبات الغضب».
من جهتها، تشرح
الإختصاصيّة غزّاوي أنّ «لا أوصاف معيّنة لشخصيّات الذين يغضبون. فالرجال
والنساء على حدّ سواء تخالجهم هذه المشاعر، والجميع من شتى الأعمار
والحالات الإجتماعية والبيئية والثقافيّة يشعرون بهذه الأحاسيس بدرجة
مختلفة إذ أنّ بعض الشخصيات أكثر هدوءاً بطبعها».
تضيف: «في ما خصّ
الفئات العمريّة، نرى أنّ المراهقين يمرّون بفترات ثورة وتمرّد، أكثر منها
غضباً، وهذا ضمن مسار المراهقة الطبيعي. وأمّا الراشدون الذين لا يعبّرون
ويكبتون الغضب، فيعانون من التعب ولا بدّ من أن يظهر التراكم في مرحلة
معيّنة».
تقول غزّاوي: «إنّ أبرز ما قد يقوم به الناس للتعبير عن الغضب
والسخط هو البكاء، الصراخ، الضرب، تحطيم أغراض، والشتم. ويترافق ذلك مع
أعراض جسديّة واضحة مثل الرجفة والتعرّق والإحمرار. كما قد تتغيّر قدرة
الإستيعاب أثناء نوبة الغضب، فلا يعود المرء منطقياً ولا يحسن التخاطب مع
سواه. وقد ينفر من اللمس فلا يقبل أن يقترب منه أحد».
عواقب وخيمةعندما
لا يستطيع المرء التخفيف عن ذاته بشتى الطرق، يقبع ضحيّة غضبه وسخطه
وإستيائه، من غير أن يدري ما العمل. يفسّر الدكتور هاشم «إنّ الكبت
المستمرّ للمشاعر والأحاسيس من شأنه أن ينعكس سلباً على الإنسان، فيرتدّ
عليه ويؤذيه. وأبرز ما قد يتسبّب به هو مشاكل صحّية مثل داء السكري وإرتفاع
ضغط الدم والقرحة وألم المعدة ووجع الرأس المزمن. كما قد تظهر أمراض
Psychosomatic، أي أساسها نفسيّ والتعبير عنها جسديّ، مثل حالات الإكتئاب
والقلق والأرق وسواها». وأمّا الأشخاص الذين يميلون إلى التعبير المبالغ به
عن غضبهم والذين تعتريهم نوبات غضب جامحة لا يسيطرون عليها، فيتسبّبون
بتدمير العلاقات العائلية والإجتماعية وحتى المهنيّة، كما يخلقون صورة
إجتماعيّة يصعب التعامل معها، مما يؤدّي إلى نفور الآخرين وإبتعادهم، ليقبع
المرء وحيداً ومنبوذاً.
حلول جذريّةيؤكّد
الدكتور هاشم أنّ «العلاج الأمثل لحالات الغضب والإنفعالات هو محاولة
السيطرة عليها عبر تقنيّات Anger Management. وهي كناية عن جلسات نفسية ضمن
حلقات في مجموعات، يتمّ خلالها التعبير عن أشياء كامنة في أعماق الإنسان،
من دون أن يخجل من الضوابط والعادات والأنظمة الإجتماعيّة. ويتمّ الإرشاد
والمساعدة. وعلى الصعيد الشخصيّ، يتمّ تعليم كلّ شخص كيفيّة السيطرة غضبه
عبر تحويله Channeling وليس كبته. يكون ذلك عبر إسداء نصائح عمليّة وتتناسب
مع كلّ حالة Self Help. «فالبعض حسب غزّاوي يلجأ إلى «الرسم أو الكتابة أو
القراءة أو المشي أوالملاكمة أو الرياضات المختلفة للتنفيس. لكنّ الأهمّ
هو معرفة موازنة الذات وعدم إرضاء الصورة الإجتماعيّة على حساب الذات
والخضوع للإرشادات والمساعدة إذا توافرت في مركز عمله أو حتى حضور دورات
خاصة بتقنيّات السيطرة على الغضب». وفي النهاية، لا توجد وقاية من الغضب
الذي ينجم عن نمط الحياة والضغط اليوميّ.
نصائح واضحةيختم
الدكتور هاشم «يجب ألا يخجل المرء من أن يكون ذاته ومن أن يعيش على
سجيّته. ويبقى الأفضل هو معرفة التنفيس عن الذات وتخصيص أوقات فراغ خاصة
بالإنسان نفسه، بعيداً عن العمل والعائلة والواجبات والمسؤوليّات». وتختم
غزّاوي «في النهاية، يجب الإقرار بأنّ الإنسان الذي يزور معالجاً نفسياً
ليس مريضاً، بل هو يخضع للإرشاد والنصح ويكرّس وقتاً لذاته ليرتاح ويعبّر
عن أحاسيسه».