خير من يقارن بين دراما البئية الشامية التي تقدم منذ عشر سنوات، والدراما السابقة التي تناولت دمشق.. كيف لا، وهو النجم الأوحد لملحمة "حمام القيشاني" بخمسة أجزاء جسد خلالها شخصية البطل الشعبي شوكت القناديلي ؟! زيارة إلى أغوار هذا الرجل بهدف سبرها، يصبح القارئ على دراية بالفرق بين دمشق الحقيقة ودمشق الآتية من حكاية جداتنا. إنه النجم المطلق للفن السوري عامة، بين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي، طلحت حمدي، وهذه المقابلة الشيقة الغنية بالمعلومات.
يستغرب الجمهور السوري غيابك لهذا الموسم عن الدراما السورية.. ما السر في ذلك؟
طلحت: الدراما السورية عجزت
عن تقديم الأفكار الجيدة
لا يوجد أسرار في الأمر بقدر ما هي وقائع يعرفها كل متابع اليوم للشأن العام في سورية من جهة، وللشأن الدرامي من جهة أخرى. فمن جهة، أثرت الحالة العامة التي يعيشها البلد على الحالة النفسية لدى كثير من الفنانين، وكنت، للأسف، أحد الذين لم تسعفهم ظروفهم النفسية والعصبية للقيام بأي دور فاعتذرت عن ثلاثة مسلسلات بيئية شامية، وعن مسلسل اجتماعي وآخر كوميدي. ومن جهة ثانية، يجب الاعتراف بأن الدراما السورية عجزت بنسبة لا بأس بها عن تقديم الأفكار الجيدة في النصوص وهذه حالة خطيرة يجب أن ننتبه إليها.
لكنَّ ممثلا مخضرما بقيمة ونجومية طلحت حمدي عليه في النهاية أن يظهر ولو بمسلسل واحد بغض النظر عن العذرين، وذلك في سبيل التواصل مع الناس؟
هذا صحيح من جانب لكنه غير صحيح في جانب آخر. لا يجوز أن يظهر الفنان على جمهوره لمجرد أن يظهر، فظهوره كيفما كان، سيؤدي بالجمهور إلى أن يعتبر هذا الممثل ممثلا كيفما كان، وهذا ما لم أعتد عليه مع الجمهور الذي أحببته وأحبني طيلة أربعين عاما، لأن ما قدمناه طيلة أربعة عقود وأكثر، هو نتاج فكري وثقافي لا يجوز أن نلوثه بأيدينا لأن هذا سيؤدي إلى تلويث العلاقة بين الفنان والجمهور.
هناك مسلسلات بيئة شامية كثيرة وأنت ابن هذه البيئة ، ألم يكن واردا ظهورك في أحدها ..كما يقال (من قريبو)؟
يضحك... "من قريبو" هذا شعار يرفعه بل ويمارسه من لا يحترم نفسه أولا، ومهنته ثانيا، وجمهوره ثالثا، وهم كثر في هذه الأيام وللأسف. لا، لن أعمل من هذا المبدأ، علما، كما قلت قبل قليل، أنه عرض علي ثلاثة أعمال بيئة شامية واعتذرت عنها، وكنت سأعتذر عن عشرة أخرى لو كانت بنفس السوية التي رأيتها. الفن لا يعرف شيئا اسمه (من قريبو) لأن الـ"من قريبو" هذه، ستؤدي إلى تقريب الدراما من قبرها، وهل نقرّب ولدا ربيناه ورعيناه، من الدفن؟!!!.
غير الأعمال الثلاثة.. هناك أعمال شامية أخرى عرضت في رمضان.. هل كانت كلها بلا قيمة فنية؟
ليس كلها، فهناك مثلا مسلسل زمن البرغوت يبدو أنه يمضي نحو تقديم بيئة شامية أكثر واقعية، والجزء الثاني أتوقعه مثيرا أكثر مما جاء في الجزء الأول.عندما نتحدث لا نعمم، وأنا تحدثت في السطور السابقة عن مسلسلات شامية قدمت لي، كما أني لم أتحدث عن مسلسلات شامية فقط، بل تناولت مسلسلات من أنواع أخرى.
لأنك ابن الشام، والبطل الأوحد لملحمة "حمام القيشاني" الدرامية.. كيف تقارن بين القيشاني والمسلسلات الشامية التي تناولت دمشق في السنوات الأخيرة؟
عفوا، لا يمكن المقارنة من الناحية التقديمية أو التوثيقية بين ما تم تقديمه من حقائق ووثائق في حمام القيشاني وبين أي مسلسل آخر ادعى ويدعي أنه يوثق لدمشق، بما في ذلك المسلسلات التي شاركت فيها أو حتى الأدوار التي أديتها. حمام القيشاني نقطة ناصعة البياض في تاريخ الداما السورية والعربية، تناول كل ما هو واقع وحقيقي لتاريخ سورية وليس دمشق فقط في الفترة ما بين 1930 و1963 وبخمسة أجزاء لم يكن هناك فارق في الإثارة أو في القيمة الفنية أو السرد التاريخي أو الجرأة، بين جزء وجزء، بل بين محور وآخر. أما المسلسلات الأخرى التي تناولت دمشق فجميعها للأسف هرولت خلف الخنجر والشوارب والعكيد والقبضاي والمخبر وغير ذلك، لتصور حياة دمشق البريئة كل البراءة مما عرض منذ عشر سنوات وحتى الآن.
إذا كانت المسلسلات قدمت ذلك، فهل لك أن تطلع القارئ على ما قدمه القيشاني؟
"هناك من لا يريد لنا أن نقدم
وجها مشرقا عن بلدنا"
حمام القيشاني والذي بذكره هنا أترحم على مخرجه الرهيب المرحوم الفنان هاني الروماني، وأتوجه بالتحية لكاتبه دياب عيد، قدم الحياة السياسية في سورية طيلة أربعة عقود، قدم الأحزاب السياسية كلها، قدم السلطات المتعاقبة، والمعارضات التي تشكلت لديها، وتناول فترات تشكيل الأحزاب السياسية، وقدم الانقلابات العسكرية والاغتيالات التي تمت في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وكل ذلك بشفافية. قدم الأهم بنظري وهو المرأة الدمشقية المثقفة الواعية المتعلمة، الصحفية ورئيسة التحرير والشاعرة والعاشقة، وكذلك قدم المرأة البيتوتية المحافظة التي لم تتعلم لكن حصرت وظيفتها بالمنزل. لا يمكن مقارنة حمام القيشاني بأي مسلسل آخر مهما حاول أحدهم لاحقا القيام بشيء مشابه أو مماثل.
علام برأيك يستند كتاب الدراما الشامية اليوم في تأليف مسلسلاتهم إذاَ؟
يستندون على ما يريده السوق والمحطات العربية التي تشتري المسلسل لتعرضه. هناك من لا يريد لنا أن نقدم وجها مشرقا عن بلدنا. هل يعقل في ظل الأحداث السورية الحالية أن تقوم محطات عربية متعددة بعرض مسلسلات شامية مأخوذة عن حكايات الأجداد وتقدمها توازيا مع الحدث السوري الدموي بينما يتم تجاهل المسلسل الذي صور كل شيء في الحياة السياسية السورية (القيشاني)؟..هناك عملية مقصودة لأن يتغيب أي شيء مشرق عن البلد وتكريس كل ما هو معتم. أما الكتاب فلو كتبوا ما يشاؤون فإنهم قادرون وببساطة على الحصول على مراجع سياسية تساعدهم في تأليف سيناريوهات تصبح خالدة عندما تتحول إلى مسلسلات، لكنهم ممنوعون من كل ذلك للأسف.
من جديد أكرر السؤال ولو بطريقة مختلفة.. ماذا كتب مؤلف حمام القيشاني ولم يكتبه الآخرون؟
الأستاذ دياب عيد شخّص الحالة كما هي.. رأينا في البيت الواحد شخصا شيوعيا وشقيقه منتمٍ للإخوان المسلمين.. شاهدنا القومي السوري الاجتماعي في بيت واحد مع شقيقه البعثي. شاهدنا المناصر لجمال عبد الناصر، بينما شقيقه يشمئز من خطاب يلقيه ناصر.. شاهدنا الميال بأهوائه للغرب، وشاهدنا الميال للسوفييت، وكذلك شاهدنا المنفتح بتحفظ دون ميول للخارج، وشاهدنا المتشدد المتزمت.. وبالنتيجة شاهدنا مجتمعا بكل هذه الاتجاهات، لكنه يسير على خير ما يرام.
كنت من أوائل الفنانين الذين اشتغلوا في الإنتاج الخاص.. لماذا لم تستمر شركتك الإنتاجية؟
كان ذلك في الثمانينات والتسعينات حيث أسست شركة إنتاج خاصة بي تنتج دراما وسينما قصيرة، وكان الهدف رفد القطاع العام بما نستطيع تقديمه له. جاءت الشركات الضخمة التي لا تعرف شيئا اسمه فن، فابتعلت كل الشركات الصغرى، بفضل قوتها المالية الكبيرة، فكان لا بد أمامنا من خيار سوى إغلاق الشركة لعدم القدرة على المنافسة.
اعتبرت الشركات الخاصة الضخمة لا تعرف شيئا اسمه فن.. هل من تفسير للتعبير؟
نعم، فعندما يأتيك رجل أعمال لا يعرف شيئا اسمه فن ويفتتح شركة إنتاج فإن كل همه سيكون حصد المال ليس إلا، وبالتالي سيلجأ للربح على حساب القيمة الفينة، لكن عندما يكون المنتج فنانا فإنه يمزج بين المادة الفنية التي سيقدمها وبين الربح، فيأتي عمله متوازنا ومقبولا. (النشرة).