تبريد حرارة الصيف بالعبادات
هل سمع أحدُكم قطّ عن (لُعابِ الشمسِ)؟نحنُ نعرفُ لُعابَ الإنسانِ.
ربّما تصوّرَ أحدُنا لعابَ الحيّةِ وهو سمُّها.
ولعابَ النحلةِ وهو عسلُها.
ولعلّ
بعضكم سمعَ طُرفةَ لُعابِ المنيّةِ! وهو اسمٌ أطلقَهُ أبو حيّةَ النميريّ
على سيفٍ لم يكن بينه وبين الخشبة فرق!! وكان أبو حيّةَ أجبن الناس
وأخوفهم، حدَّث جارٌ له فقال: دخل ليلة إلى بيته كلب، فسمع صوته من وراء
باب الحجرةِ، فظنه لصًا، قال الجارُ: فأشرفتُ عليه، وقد انتضى سيفَهُ لعاب
المنية، وهو واقف في وسط الدار وهو يقول يخاطبُ الكلب الذي ظنّه لصًا: أيها
المغتر بنا والمجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك: خير قليل، وسيف
صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهورةٌ ضربته، لا تخاف نبوته، اخرج
بالعفو عنك، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيسًا إليك لا
تقم لها، وما قيس؟! تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا، سبحان الله، ما أكثرها
وأطيبها.
فبينا هو كذلك إذ الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبًا، وكفاني حربًا!.
هذا هو لُعابُ المنيّةِ وهذا صاحبُهُ الشجاع.
فما لُعابُ الشمسِ الذي ذكرتُ خبره في صدر حديثي؟
تُطلقُ العربُ لُعابَ الشمسِ على ثلاثةِ أشياء:
أوّلها: شيءٌ تراه ينحدرُ من السماء كخيوطِ العنكبوتِ إذا اشتدّ الحرّ، وتشبّع الهواء بالماء.
وثانيها: السرابُ.
وثالثها: العرقُ.
فكلّ هذه الثلاثةِ تسمّيها العربُ (لعابَ الشمسِ) لأنّها ناشئةٌ عن شدّة الحرارةِ، ووقدةِ الهجيرِ.
ومن باب الاستطراد بالفائدة فقط أخبركم أنّ العرب يعرفونَ بإزاء (لعابِ الشمس) (بُصاقَ القمرِ) وهو عندهم حجر المروِ الأبيض!.
وما
أظنّ الشمسَ عندنا يسيلُ لعابُها كما يسيل في هذه الأيامِ التي تتقدُ فيها
الأرضُ والسماءُ بحرّ يشبه قلب الصبّ، ويذيب دماغ الضّبّ، وينضج الجلود،
ويذيب الجلمود [جواهر الأدب 943]. ويلوي الجنوب، ويشوي الأفئدة والقلوب،
وينزع الشّوى (جلدة الرأس) ويذيب الحشى، ويضرم الأكباد، ويسعّر الصمّ
الجلاد [عمدة الكاتب 246].
إنّه الصّيف... الذي جاءنا هذا العام أشدّ لفحا مما كان!.
طريقة مبتكرة لتبريد حرارة الصيف
وإذا
كانت عادة الناس قد جرتْ بأن يبرّدوا حرارة صيفهم بالمكيفاتِ، فإنني
وإياكم اليوم نريد أن نخترع طريقة جديدة مبتكرةً لتبريد حرارة هذا الصيف.
الطريقةُ المخترعةُ هي تبريد حرارة الصيف بالعبادات!!.
نعم.. بالعبادات والطاعات!! ولا تستغربوا.. فطاعة الله وعبادتُهُ بردٌ يحلّ على قلب المسلم وجسده..
ذلك
أنّ فرط الحرارةِ هو من نفس جهنم كما روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "قالت النار: رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس،
فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير
فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم". وحرُّ جهنّم إنما
يفرّ منه المؤمن بالطاعات.
والطاعةُ كذلك هي التي حوّلت نار إبراهيم بردا وسلاما {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} (الأنبياء: 69).
وجرتْ ألسنة الصالحين على مرّ العصور بألفاظٍ من نحوِ: بردِ اليقين، وبرد الطاعة، وثَلَجِ الهداية.
كل ذلك يؤكد حقيقة أنّ (الطاعةَ) تبرّدُ على الإنسانِ!.
وإليكم شاهد من التاريخ على أثر الطاعةِ في (التبريد)!!.
عن
ابن سيرين قال: خرجت أمّ أيمن مهاجرة إلى الله ورسوله وهي صائمة ليس معها
زاد، ولا حمولة، ولا سقاء، في شدّة حرّ تهامة، وقد كادت تموت من الجوع
والعطش، حتى إذا كان الحين الذي يفطر فيه الصائم سمعت حفيفا على رأسها،
فرفعت رأسها فإذا دلْوٌ معلّق برشاء أبيض، قالت: فأخذته بيدي فشربت منه حتى
رويت، فما عطشتُ بعد، فكانت تصوم وتطوف لكي تعطش في صومها فما قدرت على أن
تعطش حتى ماتت [عبد الرزاق 7900].
فما
رأيكم في هذا الصيف أن نضيف إلى المكيّفاتِ التي تهدر بالليل والنهار في
منازلنا مكيّفاتٍ أخرى إيمانية؟ ولنسمّ هذه المبرداتِ الإيمانية (عبادات
الصيف).
ولا أعني بهذه التسمية
أنها عبادات لا تصلح إلا في الصيف، ولكنني أقصد أنّها عبادات يحسن الإكثار
منها خلاله إمّا لارتباطها بطبيعة جوّه اللاهب، أو لارتباطها بطبيعة الحياة
الاجتماعيّة أثناءه.
1. عبادة الاتعاظِ والتفكُّرِ:ولعلّ
أوّل عبادةٍ تخطُرُ في قلبِ المؤمن في هذا الهجيرِ عبادة الاتعاظِ
والتفكُّرِ، انظر أيها الأخ كيفَ يلفحك هذا الهجيرُ حتى لا تكادُ تطيق
صبرًا، وكيف تأوي مسرعًا إذا حلت الظهيرةُ إلى داركَ تبتغي ملاذًا! ثمّ
تذكّر من بعدُ حرًا إن ابتليتَ به لم تجد منه ملاذًا ولا معاذًا! إنّه حرُّ
جنّهم الذي لا يعدلُ حرُّ الدنيا منه شيئًا! بل أعظمُ من هذا.. إنّ نار
الدنيا التي تسلخ الجلود وتذيب العظمَ لا تساوي من نار جهنّم شيئًا!! قال
صلى الله عليه وسلم: "نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ
مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ قَالُوا وَاللهِ إِنْ
كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ
عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا"
(مسلم)، وعند الترمذي: "أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى
احْمَرَّتْ ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ ثُمَّ
أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ
مُظْلِمَةٌ".
ومع الحرّ المحيط
والنار اللاهبة.. تتحول الثيابُ والطعام والشرابُ إلى نارٍ!! {قُطِّعَتْ
لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ *
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} (الحج: 18، 19)، {وسُقُوا
مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (محمد: 15). نسأل الله العافية.
ألا
ذكرت أخي كلما لفحتك الشمسُ بشواظِها هذه الدار المسعّرةَ فاستعذتَ
واستغفرتَ؟ ثمّ ذكرتَ ما يقابلها من برد الجنّةِ وطيب هوائِها فسألتَ
وأقبلتَ؟
إنّك لو لم تخرج من صيفكَ إلا بهذا لكنتَ قد خرجتَ بثروةٍ عظيمةٍ لا تقدّر بثمن.
2. عبادة سقي الماء:إنّ من العبادات العظيمة التي ينال بها المرء أجزل الثواب في هذا الحرّ الشديد عبادة (سقي الماء).
ولقد غفر الله لبغيّ من بني إسرائيل لما سقت كلباً دلّى لسانه من العطش، فكيف بمن سقى إنسانًا؟
وقد قال صلى الله عليه وسلم: في كلّ كبد رطبة أجر.
وعن
ابن عباس قال: في ابن آدم ستون وثلاثمائة سلامى على كل واحد في كل يوم
صدقة.. كل كلمة طيبة صدقة، وعون الرّجل أخاه صدقة، والشربة من الماء يسقيها
صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة. [المفرد 422].
فما أجمل أن يتوسّع الإنسان في هذه العبادة في الصيف!!..
ما أجمل أن يوقف ثلاجات الماء البارد، وأن يعمد إلى ما تعطل منها في طريق السابلةِ فيصلحُهُ.
وما أجمل أن يعمد إلى مكان مزدحم فيجعل فيه خزّان ماء بارد يشرب منه الناس.
وما ألطف أن يطلب من باعة المياه عند الإشارات أن يوزعوا الماء على الرّكاب ويتولّى هو دفع قيمته.
وما
أجمل أن يأخذ امرؤ نفسه بتعاهد خزانات المساجد فيوفّر لها الماء البارد.
وما أحلى أن يحمل أحدنا ماء باردا يسقي به عمّال البناء الذين يعملون في
الهاجرة وتحت القيظ الشديد.
إنّ قطرة ماءٍ عذبة باردة تنزل في جوف أخٍ برح به العطش ترفعك عند الله درجات.
3. عبادة إظلالُ المسلمين: ولاحق
بالعبادة السابقة وقريب منها عبادة "إظلالُ المسلمين" فإنّ الناس أحوج ما
يكونون إلى الظل في هذه الحرارة الفظيعة.. فهل تدرك مقدار أجرك الذي تحصّله
عندما تبني مظلة لمسجد؟ أو عندما تشتري مظلات وتجعلها وقفا في الأماكن
العامة كالمقابر ونحوها؟ أو عندما تزرع أشجارا ظليلة؟ أو حتى عندما تجعل
لعمارتك مواقف مظللة يأوي إليها السكّان؟ أو حتى عندما تؤثر جارك بموقفٍ
ظليلٍ؟.
إنّ الجزاء من جنس العمل،
ومن أظلّ عباد الله من الشمس، أوشك أن يكون أهلا لأن يظله الله يوم
القيامة، يوم تدنو الشمس من الخلائق فتكون على قدر ميل.
4. ترطيب الجسد بالوضوء:ومما
يلائم الصيف من العبادات.. الوضوءُ فإنّ المرء مع شدّة الحر يحتاج إلى
ترطيب جسده بالماء، ويحتاج إلى كثرة الاغتسال، فما أجمل أن يحافظ المؤمن
على الوضوء، وأن ينوي إذا اغتسل الوضوء فيظل يومه متوضّئا يرطّب بذلك جسده،
وينال أجر ربه.
عن ثوبان رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا
أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" [ابن ماجه بسند
صحيح، الترغيب 311].
وقد علمتم أنَّ بلالاً سبق إلى الجنةِ بحرصه على مداومة الوضوءِ وصلاة ركعتين به. [ابن خزيمة في صحيحه، الترغيب: 314].
5. صوم النوافل في الصيف:ومن
عبادات الصيف كذلك.. الصّوم.. فإنّ مجاهدة المرء نفسه على أن يصوم النوافل
في الصيف مع طول النهار، وشدّة الحرارة دليل على صدق إيمانه، واستعداده
للبذل والتضحية في سبيل الطاعة.
وفي
حديث أبي موسى أنهم كانوا على ظهر سفينةٍ فسمعوا هاتفا يهتفْ: قفوا أخبركم
بقضاء قضاه الله تعالى على نفسه أن من أعطش نفسه لله في يوم حارٍّ يرويه
يوم القيامة، قال أبو بردة: فكان أبو موسى لا يمرّ عليه يوم حارٌّ إلا
صامه، فجعل يتلوّى فيه من العطش [عبد الرزاق 7897].
6. لزوم المساجد: ومن
طبيعة الصيف أيها الأحبّة فراغ كثير من الناسِ فيه من الشغل وهذا يتيح
للمؤمن ضروبا من العبادات قد تشقّ عليه في أثناء العمل والدراسة والدوام..
ومن ذلك لزوم المساجد.. وكثرة البقاء فيها للتلاوة والذّكر.. فالوقت متاح، والمشاغل قليلة.. والأجر عظيم.. عظيم.
عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما توطّن رجل
المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب
بغائبهم إذا قدم عليهم" [ابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط
الشيخين، الترغيب 488].
ومن هذا الباب تعويد المرء نفسه على طول المكث بعد كل صلاة مسبّحا مستغفرا.. ولا سيما بعد صلاتي الفجر والعصر.
وعن
عمرة قالت: سمعت أمّ المؤمنين -تعني عائشة- تقول: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "من صلى الفجر -أو قال الغداة- فقعد في مقعده فلم يلغُ
بشيء من أمر الدنيا، ويذكر الله حتى يصلي الضحى أربع ركعات خرج من ذنوبه
كيوم ولدته أمه لا ذنب له" [أبو يعلى بسند رجاله رجال الصحيح، الترغيب
659].
7. قيام الليل نهاية السهر: ومن عبادات الصيف كذلك التي تتيحها طبيعة الفراغ، وطبيعة السلوك الاجتماعي في الصيف قيام الليل.
فإنّ
هذه العبادة تشق علينا جدًّا خلال العام الدراسي بسبب المدارس والعمل..
أما في الصيف فليسأل كل منا نفسه: كم مرة بقي مستيقظا إلى الفجر؟ ما يمنعنا
وقد بقينا ساهرين أن نجعل آخر ساعة أو ربعها أو نصفها لصلاة ركيعات نكسب
بها شرف القيام؟.
ألم يقل صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" [مسلم].
ألم تتواتر النصوص في شرف هذه العبادة؟
عن
عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ في الجنة غرفة
يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام،
وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام" [الطبراني بإسناد حسن، الترغيب
897].
بل ألم نخبر عن ساعة البركة في آخر الليل؟
وعن
عمرو بن عبسة أنه سمع النبي يقول: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف
الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن"
[الترمذي، الترغيب 922].
8. عبادة صلة الرحم: ومن عبادات الصيف كذلك.. صلة الأرحام.. ولا سيما من كان منهم في مدينة أخرى وقد بعد به العهد، وطالت المدة.
الصيف فرصة مناسبة لتجديد الزيارات، وتوثيق المودّات، وللرحم وصلتها مكانها المعروف في ديننا.
عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله
ليعمر بالقوم الديار، ويثمر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضا
لهم، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: بصلتهم أرحامهم. [الطبراني بإسناد
حسن، الترغيب 3702].
وعن أبي هريرة
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ أعمال بني آدم تعرض كل
خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم" [أحمد].
ويلحق
بالرّحم ودُّ الوالدين أو أحدهما.. فزيارة أصدقاء الوالد -ولا سيما إن
توفي- عمل صالح جليل لا نجد له أنسب من الصيف بفراغه وسعة وقته.
عن ابن عمر عن رسول الله قال: "إنّ أبرّ البرّ أن يصل الرّجل أهل ودّ أبيه" [مسلم].
ومر
أعرابي في سفر فكان أبو الأعرابي صديقا لعمر، فقال الأعرابي: ألست ابن
فلان؟ قال: بلى. فأمر له ابن عمر بحمار كان يستعقب. ونزع عمامته عن رأسه
فأعطاه، فقال بعض من معه: أما يكفيه درهمان؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه
وسلم: احفظ ودّ أبيك لا تقطعه فيطفئ الله نورك. [مسلم، الأدب المفرد 40].
9. زيارة الإخوان ومؤانستهم: وحسبنا
ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنّ رجلا زار أخا له في قرية،
فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي
في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمةٍ تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته
في الله. قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه
[مسلم].
وعن ابن مسعود أنه قال
لأصحابه: هل تجالسون؟ قالوا: لا نترك ذلك. قال: فهل تزاورون؟ قالوا: نعم يا
أبا عبد الرحمن، إن الرجل منا ليفقد أخاه فيمشي على رجليه إلى آخر الكوفة
حتى يلقاه. قال: إنكم لن تزالوا بخير ما فعلتم ذلك [الطبراني وهو منقطع،
الترغيب 3795].
فما أحسن أن يجعل المرء من برنامج صيفه حزمة من الزيارات للأقـارب والأهل والأرحام والإخوان يبتغي بذلك الأجر والمثوبة من الله.
10. عبادة الولائم دون سرف أو مخيلة:وقريب
مما سبق عبادة (الولائم). نعم.. فدعوة الإخوان والأقارب وإطعامهم
ومؤانستهم بلا سرف ولا مخيلة ومع إخلاص وحسن نيّة عبادة مأجور فاعلها..
عن
علي قال: لأن أجمع نفرا من إخواني على صاع أو صاعين من طعام أحبّ إليّ من
أن أخرج إلى سوقكم فأعتق رقبة [المفرد 566] فأولموا بارك الله فيكم!.
11. عبادة قضاء حوائج الناس: ومما
يتيحه الصيف من العبادات السعي في قضاء حوائج الناس، وإدخال السرور عليهم
بتفريج كربهم؛ فمن وجد من وقته سعة وفرصة، ورأى في نفسه قدرة في هذا الباب
فليسرع.. يعين المحتاج، ويحمل عن العاجز، ويوصل المنقطع بسيارته... إلخ.
وصور العون لا تنتهي.
عن ابن عمر أن رسول الله قال: "... ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة" [الشيخان].
وعن زيد بن ثابت عن رسول الله قال: "لا يزال الله في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه" [الطبراني، الترغيب 3870].
وعن
أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لقي أخاه
المسلم بما يحب ليسره بذلك سرّه الله عز وجلّ يوم القيامة" [الطبراني
بإسناد حسن، الترغيب 3877].
وعن
ابن عمر مرفوعا: "أحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ سرور تدخله على مسلم، أو
تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعا، أو تقضي عنه دينا" [أبو الشيخ، وهو حسن
بشواهده، الترغيب 3880].
وكان رسول الله يتخلف في المسير فيزجي الضعيف، ويردف، ويدعو له [أبو داود بسند حسن].
ومن
هذا الباب أيضا عبادة (إماطة الأذى عن الطريق)... فلو جعل أحدنا جزءا من
وقت فراغه للمرور على شارع حيّه ليرى الأذى فيزيله، والشرّ فيميطه لرجع
بأجر وافر جزيل.
عن أبي برزة قال: "قلت: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: أمط الأذى عن طريق الناس" [مسلم].
عن أبي هريرة عن النبي قال: "مر رجل بشوك في طريق، فقال: لأميطنّ هذا الشوك لا يضرّ رجلا مسلماً فغفر له" [الشيخان].
12. ضبط النفس والتحكم في الانفعال:ومن
عبادات الصيف أيضا.. ضبط النفس.. فإن شدة الحر، وفساد الجو، يدفع إلى
الحدّة في الطباع، والغلظة والنفرة، فربما آذى الإنسان وشتم وغضب واحتدّ
لأتفه الأسباب.. والصيف فرصة للتعوّد على (ضبط النفس) وعبادة (الحلم)
و(العفو) و(الصفح) و(كفّ الأذى).
13. عبادةُ تربية الأبناء!:وأشيرُ إلى عبادةٍ يغفلُ عنها الناسُ.. وهي عبادةُ (تربية الأبناء).. وإنها والله لعبادةٌ جليلةٌ متعدية النفع والأثر.
وحريٌّ
بالأب أن يستغل في الصيف فراغ أبنائِهِ وربما فراغه هو ليوثّق صلتَهُ بهم،
ليتحبب إليهم ويتودّد إليهم، يفكر كيف يزيل الحواجز التي قد تفصل بينهم،
برحلةٍ، أو زيارةٍ، أو نزهةٍ، أو غير ذلك.
وأعتقد
أن الأب الذي يعاني من فجوةٍ بينه وبين أبنائِهِ، من أنهم لا يستمعون
إليه، ولا ينتصحون بنصحِهِ، أعتقد أنه لو رسم لنفسِهِ هدفًا ألا ينقضي هذا
الصيف إلا وقد حسن ما بينه وبين أبنائِه واقترب من قلوبهم درجةً لو فعل ذلك
لكان هذا الصيف أبرك صيفٍ مرّ به.
فاهتموا بهذه الفكرة وجدوا في تأملها أيها الآباء.. ترجعوا بخير وافرٍ، وسعادةٍ غامرةٍ.
14. اغتنامِ الصيفِ في مشاريع العبادة:وأختمُ
بالإشارةِ إلى ضرورةِ اغتنامِ الصيفِ في (مشاريع العبادة) وأعني بها تلك
العبادات التي تحتاجُ إلى وقتٍ مكثّفٍ ومحدّدٍ لإنجازِها، ويكون الصيف
بطبيعتِهِ فرصةً ملائمةً لها.. ومن ذلك:
حفظ القرآن أو شيءٍ منه، أو مراجعتُهُ وتمكينُهُ، أو تكثيرُ ختمِهِ؛ فكل ذلك مما يسع الإنسان أن يبرمج نفسه في الصيف لإنجازِهِ.
ومن
ذلك طلبُ العلمِ، كأن يعزمَ المسلمُ على إتقان بابٍ من العلم، كأن يجعل من
غايتِهِ في هذا الصيف أن يتعلم أحكام الصلاةِ مثلاً، فيبحث عن درس أو
دورةٍ تعالج هذا الباب فيلتزمها حتى يستوفيه.
ومن
ذلكَ تعلُّمُ مهارةٍ، أو إتقانٍ خبرةٍ بنيّةِ إفادة الأمة وخدمة المسلمين،
إلى غير ذلك مما يمكنُ ضبطُهُ وإنجازُهُ في شهرين أو ثلاثةٍ.
وعلى كل أيها الأحبّةُ...
فهذا نثارٌ من الأفكار وما في عقولكم وأذهانكم أكبر لو تأملتم..
وقاني الله وإياكم لفحة الهجير في الدنيا، ولهيب النار في الآخرة..