نعمة الحمى:الحمَّى آيةٌ من آياتِ اللهِ تعالى في
خلقه، وهي ظاهرةٌ تدلُّ على حيويَّةِ الجسمِ وتآزره وتعاونه لمقاومة المرض،
ولهذا نلاحظ ضَعف استجابة الجسم بالحمى عند الأشخاص المسنِّين، والضعفاء
المُدْنَفين, والمرضى المصابين بأمراض مزمنة.
.
وقد أشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى
وظيفة الحمى في الدفاع عن الجسم بقوله: ” مَثَلُ المؤمنينَ في تَوادِّهِمْ
وتَراحُمِهِمْ وتَعاطُفِهِمْ مثلُ الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له
سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحمَّى”.
ولهذا لا يجوز التأفُّفُ من الحمى، ولا
يجوز سبُّها، كما يفعل بعض المرضى عن جهل منهم، وقد روى جابر بن عبد الله
رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخلَ على أُمِّ
السَّائِبِ أو أمِّ المُسَيِّب، فقال:” ما لَكِ يا أمَّ السائبِ أو يا أم
المسيب تُزَفْزِفينَ – أي ترتعدين -؟ قالتْ: الحمَّى لا باركَ اللهُ فيها!
فقال: “لا تَسُبِّي الحُمَّى فإنَّها تُذْهِبُ خطايا بني آدمَ كما يُذْهِبُ
الكِيرُ خَبَثَ الحديـدِ”.
ومن الطريف أن بعض أطبائنا القدامى وبعض فقهائنا قد أدركوا منذ وقت بعيد هذه الطبيعة في الحمى, وأشاروا إلى بعض منافعها:
.
ومن ذلك ما ذكره الإمام ابن القيِّم رحمه
الله تعالى في كتابه النفيس ( زاد المعاد ) حيث قال:” وقد ينتفع البدنُ
بالحمّى انتفاعاً عظيماً لا يبلغه الدواءُ وكثيراً ما تكون سبباً لإنضاج
موادَّ غليظة لم تكن تنضج بدونها، وسبباً لِتَفَتُّحِ سَدَدٍ لم تكن تصل
إليه الأدويةُ المفتِّحةُ.
وأما الرَّمَدُ الحديث والمتقادم فإنَّها
تُبرئ أكثرَ أنواعه بُرءاً عجيباً سريعاً، وتنفع من الفالج [الشلل النصفي]،
واللَّقْوَةِ [داء يكون في الوجه يعوج منه الشدق]، والتَّشَنُّج
الامتلائي، وكثيراً من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة.
وقال لي بعضُ فضلاء الأطباء: إن كثيراً من
الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية، فتكون الحمى فيه
أنفعَ من الدَّواء بكثير، فإنَّها تُنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما
يضرُّ بالبدن، فإذا أنضجتْها صادَفَها الدَّواءُ متهيئةً للخروج بنضاجها،
فأخرجها فكانت سببـاً للشفـاء”.
لقد تبين أنه عند الإصابة بالحمى ذات
الحرارة الشديدة التي قد تصل إلى 41 درجة مئوية والتي وصفها عليه الصلاة
والسلام بأنها من فيح جهنم وقد يؤدي ذلك إلى هياج شديد ثم هبوط عام وغيبوبة
تكون سببا في الوفاة, ولذا كان لزاما تخفيض هذه الحرارة المشتعلة بالجسم
فورا حتى ينتظم مركز تنظيم الحرارة بالمخ وليس لذلك وسيلة إلا وضع المريض
في ماء أو عمل كمادات من الماء البارد والثلج حيث إنه إذا انخفضت شدة هذه
الحرارة عاد الجسم كحالته الطبيعية بعد أن ينتظم مركز تنظيم الحرارة بالمخ
ويقلل هذه الحرارة بوسائله المختلفة من تبخير وإشعاع وغيرهما.
ولذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا
حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأس فاغتسل ولما كانت الحمى يستلزمها حمية
عن الأغذية الرديئة وتناول الأغذية والأدوية النافعة وفي ذلك إعانة على
تنقية البدن وتصفيته من مواده الرديئة التي تفعل فيه كما تفعل النار في
الحديد في نفي خبثه وتصفية جوهره كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفى
جوهر الحديد>
وقد ثبت علميا أنه عند الإصابة بالحمى
تزيد نسبة مادة( الأنترفيرون ) لدرجة كبيرة كما ثبت أن هذه المادة التي
تفرزها خلايا الدم البيضاء تستطيع القضاء على الفيروسات التي هاجمت الجسم
وتكون أكثر قدرة على تكوين الأجسام المضادة الواقية , فضلا عن ذلك فقد ثبت
أن مادة ( الأنترفيرون ) التي تفرز بغزارة أثناء الإصابة بالحمى لا تخلص
الجسم من الفيروسات والبكتريا فحسب ولكنها تزيد مقاومة الجسم ضد الأمراض
وقدرتها على القضاء على الخلايا السرطانية منذ بدء تكوينها وبالتالي حماية
الجسم من ظهور أي خلايا سرطانية يمكن أن تؤدى إلى إصابة الجسم بمرض
السرطان.
ولذا قال بعض الأطباء إن كثيرا من الأمراض
نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيها أنفع من
شرب الدواء بكثير مثل مرض الرماتيزم المفصلي الذي تتصلب فيه المفاصل وتصبح
غير قادرة على التحرك ولذلك من ضمن طرق العلاج الطبي في مثل هذه الحالات
الحمى الصناعية أي إيجاد حالة حمى في المريض يحقنه بمواد معينة.
ومن هنا ندرك حكمة رسول الله صلى الله
عليه وسلم في رفض سب الحمى بل والإشادة بها بوصفها تنقى الذنوب كما تنقى
النار خبث الحديد كما أشار الحديث الشريف الذي نحن بصدده>
فالحمى حالة ترتفع فيها درجة حرارة الجسم
فوق المستوى الطبعي, وهي في حقيقتها ليست مرضاً قائماً بنفسه؛ بل هي نتيجة
مجهود عظيم يبذله الجسم ليتخلص بسببه من مرض, ويرجع التوازن الجسدي لحالته
الأولى.
لذلك يعرف الألماني (بلز) الحمى فيقول:
“هي عبارة عن انفعال عام يطرأ على الوظائف الحيوية, يضاف إليه سرعة غير
طبيعية لبعض أعمال الجسد وسرعة غير عادية للنبض, وزيادة للحرارة الغريزية,
واضطراب للمجموع العصبي والهضمي”.
إن اشتراك جميع الأعضاء في هذه الحالة هو
عبارة عن تعاون جميع القوى الحربية للبدن لمكافحة عدوها المشترك وهو المادة
المرضية التي هاجمت قلعتها وهو الجسم, فلا يجوز والحالة هذه أن تُسمى
الحمى مرضاً, بل مجهوداً في نظر قادة الطب الطبيعي.
وقد قال الأستاذ الدكتور (هاراس) مدير الأكلينيك الطبي في مدينة (بون) :” أعطوني وسيلة لإثارة الحمى, وأنا أداوي جميع الأمراض بها “.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاج الحمى: وقد أرشدنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمعالجة الحمى بالماء، وذلك بقوله:” الحمى من فَيْحِ جهنَّم فأَبْرِدوها بالماء” .
وقال ايضا :” إذا حُمَّ أحدُكم فليسُنَّ عليه الماءَ ثلاثَ ليالٍ من السَّحَرِ”.
قال ابن القيم: (فيح جهنم) هو شدة لهبها وانتشارها ونظيره قوله: ( شدة الحر من فيح جهنم ).
وفيه وجهان [أحدهما]: أن ذلك أنموذج
ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبرون بها, ثم إن الله
سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها, كما أن الرَّوحَ, والفرح, والسرور,
واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة, وقدر ظهورها
بأسباب توجبها.
[والثاني]: أن يكون المراد التشبيه فشبه
شدة الحمى ولهبها بفيح جهنم, وشبه شدة الحر به أيضاً تنبيهاً للنفوس على
شدة عذاب النار, وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب
منها من حرها.
كما أرشدنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى كيفية استخدام الماء للمحموم،
قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ) رواه البخاري.
وقوله عندما ذكرت الحمى فسبها رجل : ( لا تسبها فإنها تنقى الذنوب كما تنقى النار خبث الحديد ) رواه مسلم .