أنا .. أنا.... أنا

كان كل واحد في الصالون الأنيق يقول : انا .. انا .. انا .
اللجراح الكبير ينفث الدخان من سيجار مدلى من فمه كأنه مدخنة وابور طحين .. ويتلفت حوله في زهو .. ويلقي الحديث على اصحابه في كلمات مرصوصة منمقة0
- انا .. انا .. انا لما كنت في مستشفى هيدلبرج في المانيا .. عملت العملية دي لوحدي ومن غير بنج ... في خمس دقائق .. لما الجراحين الصغيرين إللي كانوا طبعاً معايا .. قعدوا يستعجبوا ويبصوا لبعض ... مش عارفين طبعا اني عملتها الف مرة في القصر العيني قبل كده .. واني كنت بعملها وانا مغمض العينين .. وافتح بطن العيان كأني بأعزف على البيانو ..
ولم يكن احد من المستمعين يتتبعه ، فقد كان كل منهم يتعجل دوره ليحكي شيئاً عن انتصاراته هو الاخر .
ولذلك لم يكد يفرغ من حديثه حتى انطلق رجل عجوز يجلس الى جواره يلوح بيديه قائلا :
- انا ما بعرف في الجراحة .. انا راجل مهندس .. لكن حكاية التمرين دي صحيح .. انا فاكر إني لما وضعت تصميم عمارة الأسيوطي .. رسمت الكروكي في نص ساعة وانا بشرب الشاي الصبح .. وبعدين على العصر كان مكتب التصميم شغال زي خلية النحل .. والمهندسين مكفيين على الورق ينفذوا الخطوط اللي رسمتها .. وبعد سنة كانت العمارة طالعة زي الزرع الشيطاني .. عشرين دور فوق الارض .. وكل واحد يبحلق ... ويقول إزاي .. إزاي عملتها .. إزاي عملها الجن ده ؟! 0
ولم يرق للمحامي ان يكون الصامت الوحيد في الغرفة .. فهرش رأسه هو الاخر وما لبث ان قال :
- في كل حاجة التمرين مهم .. مش بس الجراحة والمباني .. في القضايا كمان .. انا في القضية الاخيرة اللي هزت البلد .. استلمت المتهم فطسان من إيد النيابة .. معترف .. وماضي .. وباصم كمان .. ومع كده كسبت له القضية .. ليه .. لأني عشت فيها .. وعشت في امثالها الف مرة قبل كده.
وكانت زوجة المحامي طوال الوقت تنقر على كرسيها في ضيق :
إنتو الحقيقة ما سبتوش لنا حاجة يارجاله ... لكن إيه رأيكو إني انا حاطلع اشطر منكم كلكم .. واني حاعمل ثلاثة زيكو كمان عشر سنين .. حايبقى عندي كمان عشر سنين ابن جراح .. وابن محامي .. وابن مهندس . انا ولا انتم بقى ؟0
وكان طفلها يتشبث بها اثناء الحديث ويهمس في اذنها بين لحظة واخرى :
ـ انا حلو ياماما .. انا حلو ؟!0
والقسيس الوحيد بين الضيوف يميل على الخادم ويقول :
- انا عاوز القهوة ساده .
والشاب الاسمر الذي يقف الى جوار النافذة يهمس الى شاب آخر بجانبه :
- انا عاوز هوا .. هوا .. ما بيدوروش المروحة دي ليه ؟! .
وفي وقت واحد كان من الممكن ان تسمع احاديث غريبة لا يمت الواحد منها الى الاخر بصلة.
ـ انا بقولك الحصان ده مش ممكن يكسب .. اوعى تفكر تراهن عليه .. انا كلامي عمره ما ينزل الارض انت عارف.
ـ انا دماغي بتدق .. الظاهر الضغط رجع ثاني .
ـ انا عاوزهم كلهم يطلعوا ويسيبوني انا والست الحلوة اللي هناك دي .
ـ انا مش ممكن اسيب الراجل الندل ده .. الا اما أوديه في داهية .. انا لازم ارفع عليه قضية وادخله السجن0ـ انا اشتريت الارض من الوقف .. كانت خرابة .. شف دلوقت بقت ايه ـ انا مروح 0
ــ انا حانام هنا.
ــ انا .
وكل واحد كان يقول .. انا .. انا .. انا.
وشعرت بالغيظ واحسست ان كل واحد من الحاضرين كذاب .. وانه كذب على نفسه حينما حضر هذه السهرة بحجة الصداقة .. فلا احد كان يفكر الا في نفسه .. فاستأذنت وانصرفت.
وعند باب العمارة كان البواب يلوح بذراعه في وجه زميله صائحا :
ـ انا مش آرف انا عملك ايه ؟!.. اجيبك من هنا توديني هناك .. انا من النهارده ماليش كلام معاك .. انا بقالي عشرين سنة على الدكة دي ريس البوابين .. وكلامي يسمعه الكبير والصغير ... انا لازم .. الخ.
ـ وفي الطريق توقفت عند محل اشتري منه بعض لوازمي .. وكنت ما ازال افكر في شلة الصالون التي تشبه عقدا منفرطاً .. كل حبة في خيط وحدها 0وحينما بلغت منزلي كان يجري خلفي صبي صغير يحمل لي اللوازم في صناديق على كتفه .. وحينما دخلت من الباب مددت يدي فتناولت لوازمي وذهبت لتوي الى غرفة النوم .. والقيت نفسي على فراشي مرهقاً .
وبعد مضي ساعة تذكرت فجأة اني نسيت ان انقد الصبي أجره .. نسيت لاني كنت افكر انا الآخر في نفسي .. وفي الاشياء التي اريدها
و الاشياء التي لا اريدها ..وانفرطت انا الاخر كحبة وحيدة تجري في خيط وحدها.
وشعرت بالخجل والالم .. وكززت على اسناني .. ولم ادر لمن اوجه اللعنة .. لنفسي .. ام للناس .. من المسؤول عن هذا ؟!0
ملاحظة : هذه القصة من كتاب ( عنبر 7 ) للكاتب والمفكر الراحل مصطفى محمود والذي صدر في ستينات القرن الماضي .

يسلموا ايدك نشميه ياعسل

رائعه جدا ولها حكمه وهذف ماننحرم من تالقك لكى منى كل

تقدير واحترام

حلو يا نشمية
طرح راقي وهادف وجميل

بوركت الايادي

جهودك مشكوره


+

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

نشميه
كل الاحترام والتقدير سيدتي على روعه وجمال الطرح المميز
الله لا يحرمنا من جديدك
دمتي بخير وسلام

وجد ............... بريق الامل ................ جالودي ......................... الزير

اسعدني مروركم الطيب ويسلموا