يكمل نيلسون مانديلا اليوم عامه الثالث والتسعين، وهو لا يتمتع بحالة صحية جيدة. وأصبح نادرا ما يغادر منزله فى جوهانسبرج، ولم يعد يلتقى العديد من الأشخاص. ولم يستقبل ميشيل أوباما زوجة الرئيس الأمريكى وابنتيهما مؤخرا، إلا بعد إلحاح كبير.قبلما يزيد قليلا على عام تناولت الغداء معه بصحبة زملائى أعضاء مجموعة «الشيوخ». وكان على طبيعته المعتادة: مبتسمًا، وودودا، ومضيافًا، وصبورًا، وكريمًا، وممتلئًا مرحًا. لكنه قال لنا مرة أخرى: «أنا الآن متقاعد من التقاعد». وفى العام الماضى، قطع الطريق الطويل إلى قرية أسلافه البعيدين ليحتفل بعيد ميلاده مع أسرته الممتدة وعشيرته بأكملها. وأعتقد أنه سيبقى فى البيت هذا العام.
ومنذ بدأت الأحداث التى تعيد تشكيل منطقتنا فى تونس ومصر، كنت أتساءل عما قد يفكر فيه مانديلا، وما قد يقوله. وأنا أعرف أنه يتابع التطورات باهتمام شديد للغاية. وهو يعرف شمال أفريقيا وبقية العالم العربى جيدا. وقد أخبرنى أنه كان معجبا للغاية بعبدالناصر، ويعرف كل شىء عن حرب تحرير الجزائر. وأخبرنى فى الواقع (كما كتب فى سيرته الذاتية) أن إستراتيجيته للمفاوضات استلهمها إلى حد ما من مناقشة أجراها فى الرباط قبيل اعتقاله مع دكتور شوقى مصطفاى (يطلق عليه فى كتابه شوقى مصطفى) الذى كان وقتها رئيس مكتب جبهة التحرير الوطنى فى المغرب. وقال له دكتور مصطفاى إن الانتصار على الاستعمار لا يمكن تحقيقه عبر الكفاح المسلح وحده. وفى مرحلة ما، تكون المفاوضات والتسوية لازمة وفعالة.
ومنذ إطلاق سراحه من السجن، وخاصة عندما أصبح رئيسًا فى 1994، حاول زعماء أمريكا وأوروبا أن يدفعوه لأن ينأى بنفسه عن بلدان مثل كوبا، وإيران، وليبيا وحتى الصين وقبل كل ذلك الراحل ياسر عرفات. غير أنه تجاهل بلطف تلك النداءات الملحة. وقال: «لا نستطيع أن ندير ظهورنا لأولئك الذين كانوا معنا أثناء أوقاتنا العصيبة».
ولكن ماذا عن اليوم؟ بطبيعة الحال، على خلاف القادة الأوروبيين، لم يكن مانديلا ليندفع فى كافة أنواع التصريحات العامة المسطحة، والمتغطرسة، والأبوية، والتقييمية. ولكن إذا كان قد وجد الفرصة للتحدث إلى بشار الأسد، وعلى عبدالله صالح، ومعمر القذافى وآخرين أيضا، كان سيقول لكل منهم إن الوطنية والزعامة والشعور الحقيقى بالمسئولية تتعلق فى المقام الأول بتفهم الجماهير وتقييم مزاجهم. كما تتعلق بإدراك المرء لقدراته. فما الذى كان سيقوله لحشود الشباب فى شارع الحبيب بورقيبه وميدان التحرير وغيرها من أنحاء مدننا وبلداتنا؟
أعتقد مرة أخرى، أنه لم يكن ليقول مثل آخرين «نعلم احتياجاتكم، وسوف نساعدكم إذا استمعتم إلينا، وفعلتم ما قلنا لكم أن تفعلوه» وأظن أنه كان سيقول لهم: «أحبكم، وأحترمكم، وأنا معجب بكم وأثق بكم. ويعلم التونسيون أفضل منى أو من أى شخص ما يصلح لتونس، كما يعرف المصريون أكثر منى ومن أى شخص آخر ما الذى يصلح لمصر.
فهل ستقعون فى أخطاء؟ نعم بالتأكيد. هل تحتاجون إلى نصيحة ومساعدة من الآخرين؟ نعم. والنصيحة والمساعدة متاحتان. ولكن عليكم أن تطلبوهما، وتختاروا من أين تحصلون عليهما، وما الذى تقبلونه، وماذا ترفضون».
وربما يتحدث أيضًا إلى شبابنا عن أسلوبه فى القيادة. وأنا هنا أستعير من كتاب «الكفاح من أجل العدالة» لمؤلفه جاى نايدو الأمين العام السابق للحركة النقابية فى جنوب أفريقيا؛ عندما أفرج عن مانديلا، تجمع حوله عدد كبير للغاية من قيادات حزب المؤتمر الأفريقى الوطنى لبحث ما سيقوله فى أول خطاب له إلى شعب جنوب أفريقيا وإلى العالم أجمع، وأين سيلقى الخطاب: «استمع مانديلا مليًا للجميع ثم أنهى مناقشة طويلة بعبارة واحدة قالها. وسوف تصبح السمة المميزة لمانديلا فى القيادة أنه يقول كلمته النهائية، بعد الاستماع لآراء الجميع،.. وستكون تلك الذكرى الدائمة عن مانديلا فى السنوات التى تلت ذلك الوقت الاستماع بعناية، وعدم رفع صوته، والتحدث ببساطة واضحة».
وربما يقول مانديلا لشبابنا فى شارع بورقيبة وميدان التحرير ما قاله لى فى يونيو 1994. عندما كان قد تولى الرئاسة منذ شهر فحسب وذهبت لأودعه قبل مغادرة بعثة الأمم المتحدة التى ساعدت فى تنظيم الانتخابات البلاد. فأخذنى مانديلا إلى مقر إقامته المتواضع، وخضنا نقاشا سلسا طويلا على الغداء. وتحدث مليا عن الصعوبات المقبلة، وعن أفريقيا ومشكلاتها العديدة، وعن فلسطين... وكانت هناك قضية تشغلنى كثيرا، أثرتها معه فى النهاية.
فقبل بضعة أيام، كان يوجين تيرابلانشيه، وهو عنصرى لا يستحى من عنصريته، يؤمن بتفوق الجنس الأبيض، قد سئل عما إذا كان سيطلب مقابلة مانديلا، بعدما أصبح الرجل الرئيس الشرعى المنتخب ديمقراطيا للبلاد. فكانت إجابته «لا، إطلاقا» وأضاف: «لن أتقبل أفريقيًا أسود كرئيس لبلادى» وبطبيعة الحال، سارعت وسائل الإعلام بنقل الخبر إلى مانديلا وطلبت منه التعليق عليه. فقال مانديلا «من حق تيرابلانشيه أن يقتنع بأى رأى يراه، وهو حر فى التعبير عنه».
وعندما سئل: «وماذا لو طلب مقابلتك بعد كل ذلك. هل ستعطيه إذنا على الرغم من ملاحظته الوقحة العنصرية؟» فأجاب «بالطبع. أنا رئيس جميع مواطنى جنوب أفريقيا، ومن واجبى أن ألتقى أى مواطن يرغب فى مقابلتى» وسألت مانديلا عما يجعله يبدى كل هذا الصبر على مثل هذا الرجل البشع. وقلت: «جئت من الطرف الآخر لأفريقيا فى أعلى الشمال. غير أننى لن أصافح أبدًا أمثال ترابلانشيه؛ كيف تقبل استقباله بعدما قال؟». فأجاب مانديلا: «لقد عبرت على الأقل عن معارضتك بأدب شديد. كان معظم شعبنا غاضبًا منى للغاية، وتصرف البعض بوقاحة. ولكن لنبحث الأمر معا. هل تعتقد أن ترابلانشيه هو الوحيد فى هذا البلد الذى يجد صعوبة فى تقبل أفريقى أسود كرئيس للجمهورية؟ يمكنك أن تثق أن معظم البيض يتفقون معه، فكيف سنجعلهم يغيرون رأيهم. كيف سنجعلهم يتقبلون أن الأمر لا يتعلق بى وحدى، ولكن معظم رؤسائهم فى المستقبل، وربما كلهم سيكونون من السود؟ فهل سنفعل ذلك، بأن نتصرف مثلما كانوا يتصرفون أيام الفصل العنصرى؟ لا. سوف نقنعهم بأن نكون صبورين ومتسامحين، ولكن أيضا مصرين، ومنفتحين، ويقظين».
وأخيرا، لعل مانديلا كان سيخبر شبابنا أيضًا كيف رفض البقاء كرئيس للجمهورية فترة ولاية ثانية، على الرغم من أن حزبه، والنخبة البيضاء والسوداء وجماهير جنوب أفريقيا أرادت منه البقاء. وقال: «لست شخصا لا يمكن الاستغناء عنه، وقد أصبحت تقريبا فى الثمانين من عمرى. وهذا يكفى» وتنحى عن الحكم.
وفى ذلك الحين، كان الجميع فى جنوب أفريقيا وفى كل مكان يرون أن مانديلا كان مخطئا فى هذا الأمر: فمن شأن استمراره ولاية ثانية أن يكون فى صالح جنوب أفريقيا. لكن الجميع يعجب بنزاهة الرجل، ونكرانه للذات، وتواضعه، فضلا عن ثقته فى بلده وفى حزبه وشعبه، ويحترم ذلك.
واليوم، بينما يكمل هذا الرجل العملاق ابن أفريقيا 93 عاما. نحييه ونقول له عيد ميلاد سعيد يا مانديلا. نتمنى لك عمرًا مديدا، ونأمل أن تزور شمال القارة مرة أخرى، عندما يكتمل ازدهار الربيع.