رواية للروائي علي بدر
«نساء وصخب وكاتب مغمور»، رواية تنتمي الى جنس الروايات السردية
الواقعية، تستملك عليك وجدانك بأسلوب الكاتب علي بدر الذي اختار لنفسه نهجا
خاصا به في تقطيع الرواية غلبت عليه عبارة «مشهد» و«صورة» و«لقطة». وفي
بعض الاحيان كانت هذه العناوين بمثابة جمل خبرية أو أقرب الى عنوان مقالة
ساخرة من مثل «الاحتيال مهنة» و«نحس النساء وثورات الرجال» و«فقراء
وأغبياء».
لغة بدر في «نساء وصخب وكاتب مغمور» (المؤسسة العربية
للدراسات والنشر، 2005) سهلة لا تعقيد فيها ولا غموض. وانسياب الأحداث فيها
نابع من إمساكه الذكي بشخوص روايته، فلم يفلت واحد من قبضة قلمه السيال
وصفا أو تحليلا أو تأريخا له ولسلالة عائلته ان اقتضى الأمر.
تقوم
الرواية على فكرة بسيطة وهي الرغبة الملحة في الخروج من الوطن بعدما حل
بالبطل من عوز و تضييق في الأرزاق وخواء وآثار ما بعد الحرب ، وأمست بغداد
لا يلفها سوى الليل الموحش والصمت الموجع الحزين وما كانت كذلك. وانما هذا
ما جرى بسبب الحصار والحظر الاقتصادي الذي فرض عليها اكثر من عقد من الزمن.
هذه الفكرة «الرغبة في الهجرة او الهجرة» لم تمر «كراما» على الروائي
اذ لم يجعل منها النقطة الوحيدة في روايته، بل اشتغل بحنكة عالية على
الكثير من الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بالعراق وقبل
ذلك بعدة عقود، وكان ذلك جميعه في خدمة روايته وبث السحر فيها على النحو
الذي لمسناه.
على صعيد الحياة الاجتماعية يدين الكاتب حرب التجارة التي
نهضت بعد الحرب العسكرية ويصفها بالحرب القذرة: (ان صرخة (تقدموا… تقدموا)
في الحرب هي الصرخة ذاتها التي يمكنك ان تسمعها في الحياة…. بدأت حرب
التجارة، وميدانها الحياة، انها الحرب… نعم غير انها تفتقر لشجاعة الرجال…
السوق حرب و ان لم تكن في العراء فهي حرب تجار جبناء، يكسبون بأيد مرتجفة
وجيوب معبأة، ويسحقون بلا شفقة مصائر الناس» (ص 20).
هم الكاتب هنا
يجعل القارىء ينغمس بالاقتناع- كما أراد -بأن بطل روايته هو جندي مسرح من
الخدمة العسكرية وعائد من الحرب مدللا على ذلك تعامله بمصطلحات عسكرية.
وقد
طرح الروائي فكرة الهجرة والخروج من الوطن كرغبة ملحة منذ الصفحة الاولى
في الرواية، وقام بتصعيدها حين لاحت فرصة ذهبية سنحت لبطل الرواية ان يقوم
بعمل فريد هو (مترجم فرنسي )- التعبير الساذج لتمارى إحدى بطلات الرواية-
وهو مقصود دونما شك لإعطاء اضاءة على ضحالة ثقافتها وسطحية شخصيتها،
والمقصود حقيقة انه كان سيترجم من الفرنسية واليها رسائل لأحد معارفه الذي
لا يجيد هذه اللغة ليرسلها الى فتاة مغربية تعرف إليها صدفة لدى قدومها الى
بغداد ضمن وفد رياضي.
لكن المؤلف وقبيل التعريف بمن هو هذا الشاب الذي
تعرف الى الفتاة المغربية سيؤرخ لتاريخ عائلته وذلك منذ الصفحة 35 وحتى
الصفحة 60 من الرواية، حيث عاد بالقارئ دون أدنى شعور بالملل قد يصيبه الى
تاريخ امه والى فترة الخمسينيات و الستينيات وتفصيلات في الحياة السياسية
قبل حكم الرئيس عبد الكريم قاسم من العقد المنصرم ، وبعد ذلك العهد.
ولا
يتوقف الأمر هنا، فلقد جاب الروائي بكل مكر هذه الحياة الزاخرة لسعاد
التركمانية والدة الشاب وهو يتناول طعامه، وسار بالقارئ اكثر من عشرين صفحة
ممتعة قبل ان ينهي طعامه وما كان سوى ساندويش فلافل.
لقد أجمل المؤلف
في هذه الرواية هموم وهواجس الشعب العراقي (خصوصا فئة الشباب) في الرغبة
بالهجرة والخروج من عنق الزجاجة، وجعل القارئ يعيش معاناة بطل الرواية الذي
كان يشرع في كتابة رواية تتحدى الكتاب، وأوغل في التمويه على الكاتب
بالإغراق في الواقعية والمونولوج الداخلي الذي كان ينتاب البطل حتى أحس
القارئ انه فعلا أمام شاب موهوب عازم على انجاز روايته بتحديه الكتاب
جميعا. حين قال: «فليذهب نجيب محفوظ الى الجحيم» (ص 22).
ولقد اورد
الروائي على مدار 227 (صفحة) عدد صفحات الرواية- معاناة كثيرين ووجع
ملايين، وتحدث عن الحلم الذي انفثأ كفقاعة، فالفتاة المغربية التي كانت
تراسل صديقه وطار اليها بعد ان خسر الجميع تقريبا كل ما يملكون ماديا، ظهر
انه لا وجود لها اطلاقا و انما هناك شخص عابث كان يداعب أحلام أناس بأعصاب
باردة وقلب جامد.
ولم يكن المؤلف يعني بانكسار الحلم في هذه الصورة
الموجعة، إظهار سذاجة شاب واهم وحسب، بل لعله عنى مدى القهر والخيبة اللتين
لم يتبق ليضاف اليهما سوى عابث يلهو بأحلام صغيرة وآمال مشروعة في ظروف
قاهرة، مضنية، تفوق التحمل.
لقد ندد علي بدر بالأوضاع المادية المتردية
التي عاشها الشباب العراقي حتى انه تساءل في لوعة: «ألا أحد يملك ألف دولار
في هذا الوطن العربي» (ص 210).
كذلك أطلق تنهيدة عميقة معبرا بشفافية
عالية عن روح القهر والرغبة في الانعتاق لدى الشباب العراقي المقهور، وقد
اختصر ذلك على لسان بطله حين قال إنه لم يزر القاهرة أو عمان ولم ير دولة
الكويت الا مع القوات المجتاحة.
كما انتقد برشاقة واضحة فهم المؤسسة
الرسمية للمثقف وببساطة مبطنة حين رد على سؤال الشرطي القادم للتحقيق معه
حول عمله بقوله انه كاتب ومفكر، فلما الح الشرطي بالسؤال عن مكان العمل
وفيما اذا كان في مؤسسة حكومية أجابه بطل الرواية بالنفي، فطلب من كاتب
المحضر ان يسجل «اكتب..يعمل..مفكر أهلي» (ص168).
وثمة مأخذ على الرواية،
وهو: كيف فات بطل الرواية وهو جامعي مثقف يتقن الفرنسية والإنجليزية ويحفظ
قصائد كبار الشعراء العالميين انه وقع في وهم ان يكون عباس (صديق عيشة
المغربية الذي لم يرد عليه ولم يرسل في طلبه بعد سفره الى طنجة) قد ركب
الطائرة الخطأ، وهل من الممكن بعد كل هذه الإضاءات على شخصية البطل ان نقبل
منه جهلا بأمر بسيط كهذا حتى وان قال إنه لم يسافر قبل ذلك.
والملاحظة الاخرى تتمثل في اصرار المؤلف على الاكثار من اللهجة العامية العراقية في اغلب فصول الرواية.
ورغم
الاعتراض على اقحام العامية كما اسلفنا، فكيف يسهو الروائي عن إيراد لفظة
عامية ليست ضمن حوار وانما بلسان الراوي والمفترض ان تكون بالفصيحة دون
ادنى شك حيث قال :» ولكن الطريق طويل أمامه فهي تحتاج مو بس هذا المبلغ
انما بعد وبعد» (ص67).
يسجل لعلي بدر الولوج اليسير في التفاصيل
النفسية الدقيقة للعقدة المتوارثة في حياة الفقراء تجاه الأغنياء صدفة،
ومحاورة هذه المسألة بشكل أخاذ، حيث ذكر كيف ان الفقير اذا ما عاش فترة من
الترف فانه قد ينقلب على طبقته او ينسلخ منها ويتنكر لها، ففي بيت عبود
سائق عشيقها السابق الضابط الكبير، استاءت سعاد التركمانية وهي الفقيرة
البائسة اصلا من الحال الرث والبائس لبيت عبود، لكنها تظاهرت باستغرابها
وبرجزتها.
وقام بدر بتصوير سذاجة الفقراء حين استعاروا لها كرسيا من
الألمنيوم من بيت الجيران: «كان الكل جالسا على الارض باستثنائها.. تجمعوا
وهم ينظرون الى هذه الأناقة الجالسة على الكرسي والتي تشكل متناقضا صارخا
مع كل ما يحيط بها. (ص65).
لقد حملنا المؤلف الى بغداد واسواقها
الحزينة وليلها الكابي، ونهرها المفجوع بشفافية الروائي الذي يمتلك الطاقة
الكبيرة من الشجن والأحلام والأماني ولم يرجع بنا عطاشى، بل أكثر ارتواء من
الحزن العراقي وجراحه العميقة الغائرة في الوجدان
لقراءة الروايه