الوطن
عنوان لافت لفيلم سينمائي وفي توقيت لست
أستطيع تحديده فالعنوان يوحي بالكثير من الوجدان والود بل الجوانيات من
المشاعر الدفينة لدى أحدنا، وهذا بحد ذاته يسوقنا إلى نوعية من الخطاب
والحوار، وقد اختار المخرج محمد عبد العزيز مدينة دمشق دون سواها لتقديم
رسالة الحب الوجدانية هذه من زاوية مهمة هي أن دمشق قد تكون الوحيدة
القادرة على تقديم نسيج مستغرب من الآخرين.. ولكن هل يكفي وجود النسيج
مسوغاً للاختيار؟ وهل يفلح أحدنا عندما ينقل رؤيته ليسبغها على الواقع؟ وقد
يكون السؤال الأكثر خطورة وجرأة هل يمكن للواقع أن يكون أكثر جمالاً
وإقناعاً من الفن؟
للإجابة عن أسئلتنا السابقة يجب أن نفرغ وقتاً طويلاً، وأن نعد ندوة
متكاملة، ولكن وتجنباً للإطالة يمكن أن نستعين بالقصة وزمنها، فالقصة تدور
في أيامنا، ولا تعود إلى سبعينيات القرن الماضي أو حتى تسعينياته، وهناك
أدلة موجودة في القصة ذاتها، فالحرب اللبنانية انتهت والذين شاركوا فيها
عادوا، والمسؤولون فيها تقاعدوا، وضيعة ضايعة كما وصفتها الأديبة كوليت
الخوري بعد انتهاء العرض موجودة. وهذا يعني ببساطة أن أصحاب الخط الدرامي
الأساسي – على الأقل – من المتوافرين وبكثرة في الواقع، نسيج القصة يقوم
على أسرتين وثالثة دخيلة، وحي لا يقدم ولا يؤخر، وجانب مهم جداً من المجتمع
لا يظهر إلى العلن إلا من خلال الجندي الذي شارك نبيل في الحرب، فالقصة
تقوم مجتمعياً على شرائح (أسنسات) عينات قد لا تكون صحيحة، ولو تابعنا
القصة لوجدنا أن الرسالة غلبت الواقع وشوهته، فنحن أمام أسر يهودية غادرت
دمشق إلى روما، ولسبب ما يتعلق عند الفتاة بعشق نبيل الشاب المسيحي، وعند
العلم بوفاة الأخ لحظة وصوله إلى روما وتمسك الأسرة المنتمية في أن يكون
ثرى دمشق هو الذي يضم رفات عميد الأسرة اليهودية الذي عشق دمشق إلى درجة
حمل معه ترابها إلى روما في قطرميز من الزجاج، كان بين لحظة وأخرى يشمه من
وراء الزجاج، ولكن حرصه لم ينفع فينكسر القطرميز ويتبعثر التراب ويغادر
الحياة، لكن حرصه على التراب وحبه لدمشق جعل أخاه يعيده إلى دمشق ليدفنه في
ترابها، ويلتقي ببائع الدكان البسيط ليعترف له كم سرق له من سكاكر في
صغره!
[size=25]
[/size]كان من الممكن لهذه القصة أن تكون أكثر إقناعاً دون رفع شعارات غير حقيقية
في بعض المواقع، وبما أنني أكتب القصة أحياناً أستطيع أن أحدد مواقع القفز
والخلل، ولو تسامحنا في بعض المواقع، وتم التغاضي عن تحديد الهوية الدينية
للأشخاص، وحذفنا بعض الخطوط لكان العمل أكثر إقناعاً.. والمسوغ الذي فهمته،
وقد لا أكون وحدي في هذا الفهم أن الفيلم موجه إلى الآخر، فالشارة
بالإنكليزية والترجمة الإنكليزية واضحة، والمباشرة التي قد لا نستسيغها
واضحة في الفيلم، وأذكر أن شريكتي في الفيلم تساءلت عن مسوغ عدم كتابة
الأسماء بالعربية إلى جانب الإنكليزية، والأمر سيان في الفيلم إن كان رسالة
إلى الخارج أو رسالة قدمها المخرج من الخارج من المهاجرين، أو من رؤية
حميمية خارجية لا ندركها نحن لأننا نعيش في مدينتنا التي نحب، وفي العادة
لا يقدر الإنسان ما يملكه إلا عندما يفقده أو يبتعد عنه!
انتهاء عرض الفيلم الأول في دار عرض سينما سيتي نادت الأديبة الكبيرة
كوليت الخوري على المخرج وقالت له: ما سبب وجود قصة البنت العاشقة؟ لقد
ظننت أنها مشهد من ضيعة ضايعة.. حاول المخرج تبرير هذا الخط، فسألته أنا:
وما مسوغ الضابط المتقاعد بهذا الشكل الهزلي واللهجة غير السليمة؟ وعلى فرض
أنه ضروري لماذا لم تختر ممثلاً يجيد اللهجة حتى لا تتحول إلى نوع من
السخرية المجانية غير الموظفة؟ سوغ المخرج الموضوعين بالفسيفسائية التي
يعيشها مجتمعنا، وحين لم تقنع أديبتنا قالت للمخرج: ابتر هذا الخط غير
الفاعل في القصة لأستضيف عرضاً نخبوياً للفيلم.
فالفيلم يحوي عدداً من الخطوط التي قد يصلح كل خط منها فيلماً، لكن المخرج
آثر أن يضمها في حزمة واحدة، قولاً قد لا أوافقه عليها، وهو لا يوافقني
حتماً في رأيي، وأنا قد أنحاز إلى رؤيته لو أقنعني بجوابه، وبالمناسبة فإن
لفظ الفسيفسائية كله لا أقبله منذ زمن، واللفظ الذي أستخدمه دوماً والدال
على العيش لا التعايش، والتماهي لا الضرورة هو المعشق وذات يوم وصفت دمشق
بمدينة النوافذ المعشقة، وفي التعشيق يا صديقي يصعب تحديد الهوية والانتماء
والمصدر والمآل.. ودمشق لمن لا يعرفها هي التي تصهر الجميع وانظروا إلى
شجر النسب.
إن ما أسجله لهذا العمل هو شرف التجربة واقتحام عالم من العوالم المغلقة
وبشكل مباشر دون أي لبس، وما كنت أتمناه من الأخ محمد في هذه التجربة
المهمة للغاية أن يستعين بالخبراء من أبناء الشرائح التي تناولها ليقدم
شيئاً أقرب إلى الحقيقة والصدقية، وأبعد ما يكون عن العاطفية، وسبب ذلك كما
أرى يتعلق بما يسمى سينما المؤلف حيث يضن المخرج الذي يجد لديه كفايته على
أحد أن يشاركه كشفه وإبداعه، وهذا ما ألجأه إلى تمجيد طرف على حساب طرف،
وإسباغ مفهوم المواطنة الترابية بطريقة ملتبسة وإن كانت سليمة في مصدرها
وغاياتها.
يشهد هذا الفيلم للمخرج الشاب بالتفوق في صناعة صورة جميلة، والقدرة على
الإفادة من قدرات الممثلين الكبار والشباب الذين شاركوه هذه التجربة، فخالد
تاجا على صغر دوره كان الفاعل والمؤثر، وكذلك جهاد سعد والنجمة مرح جبر
التي كانت مقنعة وأكثر من مقنعة، وفارس الحلو الذي يبدع في كل لحظة يظهر
فيها، وتستمر الإشادة بالكادر كله الذي قدم لوحة عشق جميلة للوطن ودمشق
تحتاج إلى نوع من التعتيق والمعالجة الجديدة لتتحول إلى قصيدة نزارية في
هوى دمشق، أو إلى قطعة أنتيكا لزجاج معشق في الشارع المستقيم من الجابية
إلى باب شرقي حيث الصورة الكاملة لدمشق وأطيافها وعيشها وتعشقها دون أي
افتعال.
شكراً لأسرة الفيلم، والحب هو الذي دفع لمناقشة الفيلم بهذه الطريقة،
والرغبة في أن يبدأ سيل السينما السورية أمام دخول القطاع الخاص وبشائر
المؤسسة العامة للسينما.