رام الله -بالطبع لن يكون بوسع مطولات الوصف المتفجعة ولا بكائيات الفقد
المريرة التي ما زالت تلقى على ضريح الشاعر بين يومي الميلاد والموت، لن
يكون بوسعها أن تعيد الشاعر إلى الحياة، وأن تخرج محمود درويش من ضريحه
ليواصل مهمته الدلالية (السميولوجية) وحرفته الجمالية في كتابة الحضور
الفلسطيني بلوعته وتطلعاته وإبداعاته وحتى الهم الوجودي الإنساني الشخصي
والعام بلغة الأسطورة الواقعية، أعني لغة الشعر وسهلها الممتنع المفعم
بالمجازات الحيوية المدهشة ورمزياتها التي بوسعها أن تسير على قدمين بين
الناس.
لا أظن أن التفجع وبكائيات الفقد التي بات بعضها كما يقول
الشاعر غسان زقطان تشبه واجبا وظيفيا، لا أظن أنه يمكن لهذه البكائيات أن
تشكل دلالة حب أو دلالة إدراك لقيمة الشاعر ومنجزه الشعري العظيم مثلما لا
يمكن لها أن تساعد في تجاوز المحنة وتعويض الخسارة الفادحة على نحو إيجابي،
فالرثاء هو ابن لحظته العاطفية المجرحة بالحزن والمرارة. والأسوأ أن
الرثاء كلما تواصل لا يدل إلا على حالة اليتم وأن كان يشير إلى فداحة
الفقد. عامان من الرثاء إذا، تارة بمهرجان وخطاب وأخرى بوردات تلقى على
الضريح ولا تجد في الصبيحة قصيدتها ...!!
عامان كان يمكن لنا أن
نفعل فيها ما يخرج مشهدنا الثقافي من حالة اليتم وضياع المشروع وبكائيات
التفجع، واستعير مرة أخرى من الشاعر زقطان (أن نفعل شيئا، أن نحرر الشاعر
من المجاز، أن نحول كل هذا إلى بحث ومكان وبرامج ومشاريع)، كان يمكن لنا أن
نفتح الأفق واسعا ومتنوعا للمشهد الثقافي بحرية النص واعتراضاته الجليلة
واقتراحاته الجمالية الجريئة، حرية النص في مشروع ثقافي واضح الرؤية
والأمكنة، لا حرية المؤسسة وتصنيفاتها النخبوية واحتكاراتها الزبائنية،
حرية النص الذي يحرض على شكل التعبير وشكل اللغة وشكل التواصل لكسر قشرة
الخواء والصدى، والذي يحرض أكثر على ضرورة النقد الذي يمس ويعيد تكوين
المفهوم.
ما الذي كان محمود درويش يفعله وهو يدافع عن مقترحاته
الجمالية وحقه في المضي قدما نحو غاية القصيدة وكمالها غير هذا الذي ما
زلنا نتطلع إليه في النص والحياة معا، لقد أرسى الشاعر الفعل، لا فعل
القصيدة والأدب فقط؛ إنما فعل الحياة أيضا كما ينبغي أن يكون حينما يكون
بريئا من مذاقات القبح والرداءة والتسطيح، نعم هو الذي أرسى هذا الفعل ثم
ترك تعابيره وأشكاله ممكنة دائما في تخلقها الجمالي بعيدا عن الأيديولوجيا،
ولصيقة بالحياة ونابعة منها ومن وشؤونها المرة والحلوة، ومعبرة عن حيويتها
الإنسانية، خاصة ما يتعلق بالمقاومة بمعناها الإنساني الأشمل والأعم، وقد
لخص درويش ذلك في تقديري عندما قال 'كزهر اللوز أو ابعد'، محمود درويش
بحرية النص هو خالق الفرص وحارث حقولها، ولا أظن، أقول ذلك مرة أخرى، أن
التفجع يمكن له أن يمضي في هذه الطريق التي افتتحها الشاعر وظل سالكا فيه،
خاصة تفجع المؤسسة النخبوية الذي يسعى لتغليف الشاعر بعد قليل بورق
السوليفان وهو الذي يتفتح وردا أكثر في حرية النص ونص الحرية. لا نريد
للفاجعة أن تهيمن ولا أن تكون موضوعا استهلاكيا في أسواق الخطاب
واستثماراته، والشاعر سيظل حيا يرزق في القصيدة التي لا يريد لها أن تنتهي
وهو بكامل حيويته وحريته التي باتت مطلقة في عالم الغياب، وما واقعة التراب
إلا حادث عابر، ولكم أن تسألوا القصيدة في كل هذا الشأن