هو عبد القادر موسى كاظم الحسيني، ولد في استانبول في 8/4/1908م، توفيت
والدته بعد مولده بعام ونصف فكفلته جدته لأمه، وما لبثت هي الأخرى أن فارقت
الحياة ، فنشأ في كنف والده.
والده شيخ المجاهدين في فلسطين موسى كاظم الحسيني، شغل بعض المناصب العالية
في الدولة العثمانية متنقلاً في عمله بين أرجاء الدولة العثمانية ، فعمل
في اليمن والعراق ونجد واستانبول ذاتها بالإضافة إلى فلسطين .
ونظراً لخدماته الجليلة للدولة العثمانية، أنعمت عليه الحكومة بلقب (باشا)،
وعندما انهارت الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، ووقعت فلسطين في قبضة بريطانيا كان موسى كاظم (باشا) الحسيني يشغل منصب رئاسة بلدية القدس
، كما تم انتخابه رئيساً للجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني.
كان الأب موسى أول من رفع صوته في وجه الانتداب البريطاني، وأول من دعا أهل
فلسطين إلى الاحتجاج والتظاهر وإعلان السخط والغضب ضد وعد بلفور، فتولى
قيادة أول مظاهرة شعبية في تاريخ فلسطين عام 1920م، وبسبب ذلك عزلته سلطات
الانتداب البريطاني عن رئاسة بلدية القدس، فلم يكترث واستمر في نضاله
الدؤوب، واشترك في الكثير من المظاهرات، كانت آخرها المظاهرة الكبيرة في
يافا في 27/10/1933، حيث أصيب فيها بضربات هراوات قاسية من قبل الجنود
الإنجليز ظل بعدها طريح الفراش أياماً، حتى فارق الحياة سنة 1934م.
تربى الابن عبد القادر منذ نعومة أظفاره في بيت علم وجهاد، حيث كان هذا
البيت بمثابة الحضن الأول له والذي كان يجتمع فيه رجالات العرب الذين يفدون
إلى القدس، لأن والده موسى الحسيني كان رئيساً لبلديتها.
تعلم عبد القادر القرآن الكريم في زاوية من زوايا القدس، ثم أنهى دراسته
الأولية في مدرسة (روضة المعارف الابتدائية) بالقدس، بعدها التحق بمدرسة
(صهيون) الانجليزية، والتي كانت تعتبر المدرسة الوحيدة في القدس التي من
الممكن أن يتناول منها العربي زاده الحقيقي من المعرفة، وأثناء فترة دراسته
عكف على قراءة كتب التاريخ، وسير الأبطال والفاتحين.
أتم عبد القادر دراسته الثانوية بتفوق، التحق بعدها بكلية العلوم في الجامعة الأمريكية في مصر،
وهناك التقى بالعديد من الشباب العربي وتوثقت صلته بهم، وتحول بيته إلى
ناد نضالي، يناقش فيه مختلف القضايا القومية والدينية، وأثناء سنوات دراسته
التي قضاها في الجامعة، استطاع عبد القادر أن يكشف الدور المريب الذي تقوم
به الجامعة الأمريكية في مصر، ذلك الدور المقنع بالعلم والمعرفة، والذي
يحمل وراءه بعض أوبئة الاستعمار الخبيثة.
بعد عودته للقدس، تلقفته السلطات البريطانية حين وصوله، ووضعت بين يديه عدة
وظائف رفيعة المستوى وعليه انتقاء ما يلائمه منها ـ محاولة بذلك أن تضمه
تحت جناحهاـ إلا أنه آثر العمل في مجال أكثر رحابة يستطيع به ومن خلاله أن
يعبر عن آرائه، فالتحق بسلك الصحافة محرراً في جريدة (الجامعة الإسلامية)،
وكان الاتجاه الوطني الذي نهجته الجريدة من أهم العوامل التي دفعته للعمل
بها.
انضم عبد القادر إلى (الحزب العربي الفلسطيني) بالقدس، وتولى فيما بعد منصب
السكرتير في هذا الحزب، وبدأت نشاطاته تبرز في الأفق الفلسطيني، مما أثار
عليه حفيظة سلطات الانتداب، فأعادت عليه عرضها لشغل وظيفة (مأمور لتسوية
الأراضي) بهدف اشغاله في شؤون الأرض والزراعة، وإبعاده عن مجال السياسة.
ارتضى عبد القادر هذه الوظيفة بعد أن أيقن بأهميتها، حيث استطاع تحت ستارها
أن يتصل بإخوانه المواطنين في القرى الفلسطينية المختلفة، الذين يمثلون
القاعدة الارتكازية للثورة، فتعرف عليهم وانتقى منهم خيرهم فاستقطبهم، وشكل
منهم خلايا سرية، وبث فيهم روح الحمية والجهاد، وجمع الأموال من موسريهم،
واشترى أسلحة ومعدات، وخزنها في أماكن أمينة، وتدرب بعض الشباب على
استعمالها.
بعد أن تمادت بريطانيا في معاداتها للعرب، واستفحل الخطر اليهودي على
فلسطين، وتنادى الشعب الفلسطيني بضرورة مواجهة المخططات الاستعمارية بصورة
فعلية وعلنية... استقال عبد القادر من وظيفته الحكومية، ووهب الثورة جهده
وشبابه.
بأمر من سماحة الحاج محمد أمين الحسيني
تشكلت منظمة واحدة من معظم التنظيمات السرية الفلسطينية، أُطلق عليها
(منظمة الجهاد الإسلامي) كي يتسنى للمجاهدين تنظيم شؤونهم النضالية،
ومواجهة المستعمر بصورة أكثر دقة وشمولاً، واختير عبد القادر الحسيني
قائداً لهذه المنظمة.
قرر عبد القادر ولأسباب عديدة أن يتخذ بلدة (بير زيت) مقراً لقيادة الجهاد
المقدس، كما قسم فلسطين إلى مناطق قتالية، وولى على كل منطقة منها قائداً
من قادته، أما الخلايا السرية وقياداتها فظلت تابعة له مباشرة.
كان عبد القادر أول من أطلق النار إيذاناً ببدء الثورة على بطش المستعمر في
6 أيار 1936، حين هاجم ثكنة بريطانية (ببيت سوريك) شمالي غربي القدس، ثم
انتقل من هناك إلى منطقة القسطل، بينما تحركت خلايا الثورة في كل مكان من
فلسطين... وبلغت الثورة الفلسطينية أوج قوتها في تموز عام 1936، حيث انضم
إليها من بقي من رفاق الشهيد عز الدين القسام،
وبلغت أنباؤها العالم العربي كله، فالتحق بها المجاهدون العرب أفواجاً،
وخاض الثوار العرب معارك بطولية ضد المستعمرين البريطانيين والصهاينة، ولعل
أهم هذه المعارك كانت (معركة الخضر) الشهيرة في قضاء بيت لحم، وقد استشهد
في هذه المعركة المجاهد العربي السوري سعيد العاص
وجرح عبد القادر جرحاً بليغاً، وتمكنت القوات البريطانية من أسره، لكنه
نجح في الفرار من المستشفى العسكري في القدس، بعد مغامرة رائعة قام بها
المجاهدون من رفاقه فهاجموا القوة البريطانية التي تحرس المستشفى وأنقذوه
وحملوه إلى دمشق حيث أكمل علاجه.عاد عبد القادر إلى فلسطين مع بداية عام
1938، وتولى قيادة الثوار في منطقة القدس، وقاد هجومات عديدة ناجحة ضد
البريطانيين والصهاينة، ونجح في القضاء على فتنة دينية كان الانتداب
البريطاني يسعى إلى تحقيقها ليوقع بين مسلمي فلسطين ومسيحيها.
وفي خريف عام 1938، جُرح عبد القادر ثانية في إحدى المعارك، فأسعفه رفاقه
في المستشفى الإنجليزي في الخليل، ثم نقلوه خفية إلى سورية، فلبنان. ومن
هناك نجح في الوصول إلى العراق بجواز سفر عراقي يحمل اسم محمد عبد اللطيف.
وفي بغداد عمل عبد القادر مدرساً للرياضيات في المدرسة العسكرية في معسكر
الرشيد، وفي إحدى المدارس المتوسطة، ثم التحق بدورة لضباط الاحتياط في
الكلية العسكرية.
أيد عبد القادر ثورة رشيد عالي الكيلاني
في العراق عام 1941، وشارك مع رفاقه في قتال القوات البريطانية، لكنه بعد
فشل الثورة أُلقي القبض عليه مع رفاقه من قبل السلطات العراقية، وصدر عليهم
الحكم بالسجن، وتحت ضغط الرأي العام العراقي والرموز الوطنية العراقية،
استُبدل السجن بالنفي عشرين شهراً إلى بلدة زاخو في أقصى شمال العراق.
كما مثُلت أمام المحكمة السيدة (وجيهة الحسيني) زوجة عبد القادر بحجة
مساعدتها وإيوائها للثوار، وتحريضهم على القتال، وحكم عليها بالإقامة
الجبرية في بيتها ببغداد مدة عشرين شهراً.
وعلى أثر اغتيال فخري النشاشيبي
في شارع الرشيد ببغداد، اتُهم عبد القادر بتدبير خطة الاغتيال هذه، فبقي
موقوفاً في بغداد قرابة السنة بهذه التهمة .. ثم نقل إلى معتقل العمارة،
وهناك أمضى ما يقرب من سنة أخرى، حيث أفرجت الحكومة العراقية عنه في أواخر
سنة 1943، بعد أن تدخل الملك عبد العزيز آل سعود ملك العربية السعودية.
فتوجه إلى السعودية وأمضى فيها عامين بمرافقة أسرته.
وفي مطلع عام 1944 تسلل عبد القادر من السعودية إلى ألمانيا، حيث تلقى دورة
تدريب على صنع المتفجرات وتركيبها، ثم انتقل وأسرته إلى القاهرة وهناك
وبسبب نشاطه السياسي وصلاته بعناصر من حزب مصر الفتاة وجماعة الإخوان
المسلمين ، وتجميعه الأسلحة، وتدريبه الفلسطينيين والمصريين على صنع
المتفجرات، أمرت حكومة السعديين المصرية بإبعاده.. لكن الضغوط التي مارستها
القوى الإسلامية المصرية حالت دون تنفيذ ذلك الإبعاد.
عندما علمت الهيئة العربية العليا نية الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، سارعت الهيئة برئاسة المفتي محمد أمين الحسيني
إلى الانعقاد، وقررت مواجهة الخطط الاستعمارية الصهيونية بالقوة المسلحة،
وتقرر إنشاء جيش فلسطين لممارسة الجهاد الفعلي، واختير المفتي قائداً أعلى
لهذا الجيش وأعاد تموين منظمة الجهاد المقدس، ثم حولها إلى جيش الجهاد
المقدس الفلسطيني. وأسند قيادته العامة إلى عبد القادر الحسيني، بالإضافة
لمهمة الدفاع عن القدس ورام الله وباب الواد.
وعندما أصدرت الأمم المتحدة قرارها القاضي بتقسيم فلسطين عام 1947، تسلل
عبد القادر إلى فلسطين سراً مع بعض رفاقه، وفي نفس الوقت اجتاز الحدود
الفلسطينية عدد من المجاهدين القادمين من سورية ولبنان، والتقوا جميعاً
بعبد القادر ، وأخذوا يرسمون خطة جديدة للبدء في المرحلة القادمة من
الجهاد. فأعادوا تشكيل قوات الجهاد المقدس، واتخذت بلدة (بير زيت) مقراً
رئيسياً لتلك القوات، وتألفت في حيفا والناصرة وجنين وغزة قوات أخرى تابعة
لها.
تعتبر هذه القوات طليعة العمل النضالي العربي التي انبثقت تنظيماتها من
صميم الشعب الفلسطيني، وكانت في الحقيقة أول مظهر من مظاهر القوات الشعبية
التي تحمل في جوهرها صفة الجيش الشعبي في بلد كان يرزح تحت نير الاستعمار
البريطاني.
قامت هذه القوات بتنفيذ جزء كبير من واجباتها، فقد تمكنت من إجبار (115)
ألف يهودي على الاستسلام في مدينة القدس نتيجة حصارهم باحتلال مضيق باب
الواد وإقفاله، وقاموا بعدة معارك محلية، ونصبوا مئات الكمائن للقوافل
اليهودية والإنجليزية، كما قامت فرق التدمير بنسف العديد من المنشآت
والمباني مثل معمل الجير، عمارة المطاحن بحيفا، وعمارة شركة سولل بونيه
اليهودية.
كما خاضت هذه القوات بقيادة عبد القادر أروع ملاحم البطولة والفداء مثل
معركة بيت سوريك، ونسف شارع ابن يهوذا، ونسف مقر الوكالة اليهودية، ومعركة
الدهيشة... وقد تكبد اليهود في هذه المعارك الخسائر الفادحة في الممتلكات،
وقتل العدد الكبير منهم، وغنم المجاهدون الكثير من الأسلحة والعتاد والتي
ساعدتهم على الاستمرار في نضالهم.
تكللت جميع معاركهم التي خاضوها ضد العدو الصهيوني والبريطاني بالنجاح، إلى
أن كانت معركة القسطل التي دامت أربعة أيام بكاملها من 4ـ8 نيسان 1948،
وانتهت بأن تمكن المجاهدون من انتزاع البلدة العربية من أيدي الصهاينة، إلا
أنهم لم يمكثوا فيها سوى بضع ساعات، تمكن الصهاينة بعدها في خضم ذهول
المجاهدين وتضعضعهم بسبب استشهاد قائدهم عبد القادر، من شن هجوم معاكس
واحتلال البلدة من جديد.
استشهد عبد القادر صبيحة 8/4/1948، حيث وجدت جثته قرب بيت من بيوت القرية
فنقل في اليوم التالي إلى القدس، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد...
وسمي بطل القسطل، وقد استشهد رحمه الله وهو في الأربعين من عمره، أي في أوج
عطائه الجهادي.