في 30 أغسطس من كل عام تمر ذكرى فنان فلسطيني عربي عبقري هو ناجي العلي ، الذي اغتالته اسرائيل عام 1987 في لندن ، فرحل عن عالمنا وقد تجاوز الخمسين عاما بقليل . وليس سر الحب والولاء الذي نشعر به نحو الفنان الكبير أنه مات على أرض المعركة فحسب ، ولكن لأن القيمة التي ذهبت كانت عظيمة جدا فنيا وثقافيا ووطنيا وإنسانيا .
لقد أضاف رسام الكاريكاتير ناجي العلي إلي تاريخ الشخصيات التي تمثل علامة بحد ذاتها شخصية جديدة هي حنظلة الذي يقف على قدم المساواة مع شخصية المواطن الصغير التي خلقها تشارلي شابلن ، أو " روميو " الذي صوره شكسبير، أو " روبنسون كروزو " أو " دون كيخوت " لسرفانتس . وغير ذلك من الشخصيات التي أصبحت تجسد بحد ذاتها نموذجا دالا وعاما . ويكفي أن تنطق كلمة "روميو" ليعرف الجميع أن المقصود هو المحب الخيالي الرومانسي . أصبح روميو مفهوما إنسانيا مجردا . يكفي أن تنطق ذلك الاسم " روبنسون كروزو " ليدرك الجميع أنك تتحدث عن البطولة الفردية التي تخلق كل شيء اعتمادا على ذاتها في مواجهة الطبيعة أو المجتمع ، حسبك أن تقول " سي السيد " من ثلاثية نجيب محفوظ ليصل إلي المتلقي أنك تشير إلي مفهوم عام هو الاستبداد الشرقي . هذه الشخصيات صارت مفاهيم عامة مجردة بفضل إحكام وعبقرية وجدة الخلق الفني وطابعه التعميمي الإنساني . الآن أيضا يكفي أن تقول حنظلة : إنه يعني كل الأحلام البريئة للبشرية بالوطن والسعادة ، أحلام الطفولة التي يجبرها العالم على أن تدير ظهرها إليه بغضب وعتاب لأنها لم تعد ترجو شيئا من العالم . حنظلة ذلك الخليط العجيب من الأمل واليأس ، والبراءة والإدراك ، والقنوط ، والرجاء .
لقد وصف شارلي شابلن كيف ظل لفترة طويلة يتخير ملابس شخصية المواطن الصغير ، وكيف بحث طويلا ليجد تلك الجاكتة الفضفاضة ، والسروال الضيق ، والحذاء بمقدمته العريضة . ناجي العلي استطاع أن يجد لحنظلة ما يميزه كشخصية فنية لكي تتجاوز تلك الشخصية حدود الطفل الفلسطيني وحده وتصبح رمزا عالميا للطفولة التي تتشرد في الدنيا . خلق ناجي العلي شخصية حنظلة دون وجه ، ظهره للعالم . نحن لا نرى وجهه ، ولا دموعه ، ولا غضبه ، لكننا نحبه ونشفق عليه إلي درجة قد تفوق محبتنا لأطفالنا وإشفاقنا عليهم . ويذكرني ذلك بما قام به المخرج فيكتور فلمنج في فيلم " ذهب مع الريح " عن رواية مارجريت ميتشيل . في الفيلم الذي ظهر عام 1939 تحل على البطل " رد باتلور " كارثة وفاة طفلته الوحيدة . والمألوف في هذه الحالات أن يرينا المخرج دموع الأب وعلامات الحزن القاتل على ملامحه . لكن المخرج فيكتور فليمنج على العكس من ذلك اعتبر أن أفضل وسيلة لنقل الأحزان لن تكون بإظهار وجه الوالد ، بل بإخفاء ذلك الوجه تماما . هكذا ما أن تموت الطفلة في الفيلم حتى يندفع الأب إلي غرفة منعزلة فلا نراه ولا نشاهد وجهه. نحن لا نرى وجهه، ولهذا تحديدا ينطلق خيالنا دون قيد لتصور مدى معاناة الوالد . إنه تخيل مفتوح بلا نهاية .
ووجه لا تشاهده – وتعلم أن صاحبه معذب – أقوى تأثيرا من أية دموع حقيقية تراها أمامك . هكذا أيضا خلق ناجي العلي شخصية حنظلة الصغير: متبرما، لا يثق في أحد ، ويعلم أن الدنيا كلها ظلمته ، ولا يحول قلبه عن فلسطين . خلق ناجي العلي حنظلة بلا وجه لكي يتخيل كل منا عذابه إلي المدى الذي يسمح به خياله .
كان لناجي العلي قبل اغتياله بفترة كاريكاتير يصور دبابة كاملة مصنوعة من الأحجار أراد أن يقول بها إن الحجارة سلاح الشعب الفلسطيني ودبابته . ولم تكن انتفاضة الحجارة قد بدأت بعد . انقضى شهران ثم اندلعت الانتفاضة التي شارك فيها عشرات الآلاف من أخوة حنظلة الصغار الذين يؤرقهم الشوق إلي الوطن والكرامة . ومع مطلع كل عام دراسي جديد في فلسطين يعبر الصغار إلي مدارسهم وهم يواجهون نقاط التفتيش والحصار والمراقبة والنيران في أحيان كثيرة . ومع ذلك يواصلون طريقهم نحو العلم والمعرفة ، الطريق التي تحولت إلي إحدى أخطر الطرق في العالم . يمشي حنظلة معهم ، حقيبته على كتفه تفتش عيناه الصغيرتان عن درب وراء الأشجار والاحتلال بعد أن تيتم عام 1987 بوفاة والده ناجي العلي.
بقلم ناجي العلي:
اسمي ناجي العلي.. ولدت حيث ولد المسيح ، بين طبرية والناصرة ، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات ، في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان .. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور ، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً .. لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك .
.. أرسم .. لا أكتب أحجبة ، لا أحرق البخور ، ولكنني أرسم ، وإذا قيل أن ريشتي مبضع جراح ، أكون حققت ما حلمت طويلاً بتحقيقه.. كما أنني لست مهرجاً ، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود .. ثقيلة .. ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا .
متهم بالانحياز ، وهي تهمة لا أنفيها .. أنا لست محايداً ، أنا منحاز لمن هم “تحت” .. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى ، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم ، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذاً للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها .. ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات.
كنت صبياً حين وصلنا زائغي الأعين ، حفاة الأقدام ، إلى عين الحلوة .. كنت صبياً وسمعت الكبار يتحدثون .. الدول العربية .. الإنكليز .. المؤامرة .. كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم .. ورأيت من دنت لحظته يموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق ، التقط الحزن بعيون أهلي ، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطاً عميقة على جدارن المخيم .. حيثما وجدته مساحة شاغرة .. حفراً أو بالطباشير..
وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن ، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني ، حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية .. ثم إلى الأوراق .. إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة ” الحرية”وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من ” الحرية ” وفيها رسوماتي … شجعني هذا كثيراً.
حين كنت صبياً في عين الحلوة ، انتظمت في فصل دراسي كان مدرسي فيه أبو ماهر اليماني ..وعلمنا أبو ماهر أن نرفع علم فلسطين وأن نحييه ، وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا .. وقال لي حين لاحظ شغفي بالرسم ” ارسم .. لكن دائماً عن الوطن ” ..
وتوجهت بعد ذلك إلى دراسة الفن أكاديمياً ، فالتحقت بالإكاديمية اللبنانية لمدة سنة ، أذكر أني لم أحاول خلالها إلا شهراً أو نحو ذلك ، والباقي قضيته كما هو العادة في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية .. كانوا يقبضون علينا بأية تهمة ، وبهدف واحد دائماً: هو أن نخاف ، وكانوا يفرجون عنا حين يملون من وجودنا في السجن ، أو حين يتوسط لديهم واحد من الأهل أو الأصدقاء.
ولآن الأمور كانت على ما كانت عليه ، فقد فكرت في أن أدرس الرسم في القاهرة ، أو في روما ، وكان هذا يستلزم بعض المال ، فقررت أن اسافر إلى الكويت لأعنل بعض الوقت .. وأقتصد بعض المال .. ثم اذهب بعدها لدراسة الرسم ..
ووصلت بالفعل إلى الكويت عام 1963، وعملت في مجلة” الطليعة ” التي كانت تمثل التيار القومي العربي هناك في ذلك الوقت .. كنت اقوم أحياناً بدور المحرر والمخرج الفني والرسام والمصمم في آن واحد .. وبدأت بنشر لوحة واحدة .. ثم لوحتين ..وهكذا .. وكانت الاستجابة طيبة .. شعرت أن جسراً يتكون بيني وبين الناس ، وبدأت أرسم كالمحموم ، حتى تمنيت أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى .. بعشرين يداً .. وبكل يد ريشة ترسم وتحكي ما بالقلب .. عملت بصحف يومية بالإضافة إلى عملي ، ونشرت في أماكن متفرقة من العالم .
كنت أعمل في الكويت حين صدرت جريدة” السفير ” في بيروت . ولقد اتصل بي طلال سلمان وطلب مني أن أعود إلى لبنان لكي أعمل فيها . وشعرت أن في الامر خلاصاً ، فعدت ولكني تألمت وتوجعت نفسي مما رأيت ، فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية قبل الثورة ، كانت تتوفر له رؤية أوضح سياسياً ، يعرف بالتحديد من عدوه وصديقه ، كان هدفه محدداً فلسطين ، كامل التراب الفلسطيني .
لما عدت ، كان المخيم غابة سلاح ، صحيح ، ولكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدته أصبح قبائل ، وجدت الأنظمة غزته ودولارات النفط لوثت بعض شبابه ، كان هذا المخيم رحماً يتشكل داخله مناضلون حقيقيون ، ولكن كانت المحاولات لوقف هذه العملية . وأنا اشير بإصبع الاتهام لأكثر من طرف ، صحيح أن هناك تفاوت بين الخيانة والتقصير ، ولكني لا أعفي أحداً من المسؤولية ، الأنظمة العربية جنت علينا ، وكذلك الثورة الفلسطينية نفسها .
وهذا الوضع الذي اشير إليه يفسر كثيراً مما حدث أثناء غزو لبنان .
عندما بدأ الغزو كنت في صيدا ، الفلسطينيون في المخيمات شعروا أنه ليس هناك من يقودهم ، اجتاحتنا إسرائيل بقوتها العسكرية ، انقضت علينا في محاولة لجعلنا ننسى شيئاً اسمه فلسطين ، وكانت تعرف ان الوضع عموماً في صالحها ، فلا الوضع العربي ، ولا الوضع الدولي ولا وضع الثورة الفلسطينية يستطيع إلحاق الهزيمة بها ، والأأنظمة العربية حيدت نفسها بعد ” كامب ديفيد “.
في الماضي كانت الثورة الفلسطينية تبشر بحرب الأغوار بالرجب الشعبية ، العدو جاء باتجاهنا وكل قياداتنا العسكرية كانت تتوقع الغزو، وبتقديري ، ورغم أنني لست رجلاً عسكرياً ولم أطلق رصاصة في حياتي ، أنه كان من الممكن أن تجتاح إسرائيل لبنان بخسائر أكبر بكثير ، وهنا تشعر أن المؤامرة كانت واردة من الأنظمة ومن غير الأنظمة ، أقصد مؤامرة تطهير الجنوب والقضاء على القوة العسكرية الفلسطينية وفرض الحلول ” السلمية” وتشعر أنه مقصود أن تقدم لنا هذه “الجزرة” لكي نركض وراء الحل الأمريكي.
هذا هو الوضع العربي والوضع الفلسطيني جزء منه ، بتقديري أنه كان يمكن أن نسدد ضربات موجعة لإسرائيل ، ولكن مخيماتنا ظلت بلا قيادة ، وكيف لأهاليها أن يواجهوا الآلة العسكرية الإسرائيلية !
الطيران والقصف اليومي من البر والبرح والجو ، بالإضافة إلى أن الوضع كان عملياً مهترئاً ، قيادة هرمت ، ومخيمات من زنك وطين، اجتاحها الإسرائيليون وجعلوها كملعب كرة قدم ، ومع ذلك وصل الإسرائيليون إلى بيروت وحدود صوفر ، والمقاومة لن تنقطع من داخل المخيمات وبشهادات عسكريين إسرائيلين وبشهادتي الشخصية اعتقلت أنا وأسرتي كما اتعقلت صيدا كلها وقضينا 3 أو 4 أيام على البحر .
بعد أن تم الاحتلال ، كان همي أن أتفقد المخيم لأعرف طبيعة المقاومة والقائمين بها ، أخذت معي ابني _وكان عمره 15 سنه وذهبنا في النهار ، كانت جثث الشهداء ما زالت في الشوارع والدبابات الإسرائيلية المحروقة على حالها على أبواب المخيم لم يسحبها الإسرائيليون بعد ، تقصيت عن طبيعة المقاومين فعرفت أنهم أربعون أو خمسون شاباً لا أكثر ، كان الأإسرائيليون قد حرقوا المخيم والأطفال والنساءكانوا مازالوا في الملاجيء، وكانت القذائف الأإسرائيلية تنفذ إلى الأعماق وكان قد سقط مئات الضحايا من ألأاطفال في المخيم وفي صيدا .
وبشكل تلقائي عاهد هؤلاء الشباب أنفسهم أنهم لن يستسلموا وأنها الشهاجة أو الموت ، وفعلاً لم تستطع إسرائيل أن تأسر أي واحد من هؤلاء الشباب . في النهار ، في ضوء الشمس كانت إسرائيل تنقض عليهم . وفي الليل يخرجون هم بالأر بي جي . فقط .
هذه صورة مما حدث في مخيم عين الحلوة ، وأنا شاهد ولكني أعرف أن هناك صوراً أخرى في مخيمات صور والبرج الشمالي والبص والرشيدية .
كان الناس في الملجأ وفي الشارع يدعون لله ويسبون الأنظمة وكل القيادات ويلعنون الواقع ولا يبرئون أحداً ، ويشعرون أنه ليس لهم إلا الله ويتحملون مصيرهم .
جماهير الجنوب بما فيها جماهيرنا الفلسطينية المعترة (الفقيرة ) هي التي قاتلت وهي التي حملت السلاح ووفاء لهذا الشعب العظيم الذي أعطانا أكثر مما أعطانا أي طرف آخر، وعانى وتهدم بيته ، لابد من أن يقول المرء هنا إن مقاومي الحركة الوطنية اللبنانية قد جسدوا روح المقاومة بما يقارب الأسطورة .
وفي رأيي أن الإعلام العربي مقصر في عملية توضيح روح المقاومة الحقيقية .
اغتياله
اطلق شاب مجهول النار على ناجي العلي في لندن بتاريخ 22 يوليو عام 1987 فاصابه تحت عينه اليمنى ، ومكث في غيبوبة حتى وفاته في 29 اغسطس 1987، ودفن في لندن رغم طلبه أن يدفن في مخيم عين الحلوة بجانب والده وذلك لصعوبة تحقيق طلبه.
قامت الشرطة البريطانية، التي حققت في جريمة قتله، باعتقال طالب فلسطيني يدعى إسماعيل حسن صوان ووجدت أسلحة في شقته لكن كل ما تم اتهامه به كان حيازة الأسلحة. تحت التحقيق، قال إسماعيل أن رؤساءه في تل أبيب كانوا على علم مسبق بعملية الاغتيال. رفض الموساد نقل المعلومات التي بحوزتهم إلى السلطات البريطانية مما أثار غضبها وقامت مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء حينذاك، بإغلاق مكتب الموساد في لندن[1].
ولم تعرف الجهة التي كانت وراء الاغتيال على وجه القطع. وإختلفت الآراء حول ضلوع إسرائيل أم منظمة التحرير الفلسطينية أو المخابرات العراقية. ولا توجد دلائل ملموسة تؤكد تورط هذه الجهة أو تلك.
يتهم البعض إسرائيل بالعملية وذلك لانتمائه إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي قامت إسرائيل باغتيال بعض عناصرها كما تشير بعض المصادر أنه عقب فشل محاولة الموساد لاغتيال خالد مشعل قامت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية بنشر قائمة بعمليات اغتيال ناجحة ارتكبها الموساد في الماضي وتم ذكر اسم ناجي العلي في القائمة[2].
يتهم آخرون م.ت.ف وذلك بسبب انتقاداته اللاذعة التي وجهها لقادة المنظمة. بحسب تقرير للبي بي سي فإن أحد زملاء ناجي العلي قال أن بضعة أسابيع قبل إطلاق النار عليه التقى بناجي العلي مسؤول رفيع في منظمة التحرير الفلسطينية، وحاول إقناعه بتغيير أسلوبه فقام ناجي العلي بعد ذلك بالرد عليه بنشر كاريكاتير ينتقد ياسر عرفات ومساعديه[3]. ويؤكد هذه الرواية شاكر النابلسي الذي نشر عام 1999 كتابا بعنوان "أكله الذئب" كما يدعي أيضا في كتابه أن محمود درويش كان قد هدده أيضا ويورد مقتطفات من محادثة هاتفية بينهما كان العلي قد روى ملخصها في حوار نشرته مجلة الأزمنة العربية (عدد 170 /1986/ ص14)[4].
دفن الشهيد ناجي العلي في مقبرة بروك وود الإسلامية في لندن وقبره يحمل الرقم 230191 . وأصبح حنظلة رمزاً للصمود والإعتراض على ما يحدث وبقي بعد ناجي العلي ليذكّر الناس بناجي العلي.
من اقولا ناجي العلي
اللي بدو يكتب لفلسطين, واللي بدو يرسم لفلسطين, بدو يعرف حالو : ميت.
هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب.
الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة, إنها بمسافة الثورة.
كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي, أنا أعرف خطا أحمرا واحدا: إنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع على اتفاقية استسلام وتنازل عن فلسطين.
متهم بالإنحياز, وهي تهمة لاأنفيها, أنا منحاز لمن هم "تحت".
أن نكون أو لا نكون, التحدي قائم والمسؤولية تاريخية.
وعن حنطلة يقول ناجي: ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر ، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء.
واما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع.
وعندما سُئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب : عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الانسان العربي شعوره بحريته وانسانيته.
ناجي العلي... الإرث والأثر والثأر
تقودنا ذكراه السنويه إلى محاولة النظر مرة أخرى إلى موروث الشهيد الغني، وإلى بحث تأثيره على فن الكاريكاتير الفلسطيني المعاصر، وإلى محاولة البحث مرة أخرى عن خيوط ما زالت غامضة في جريمة اغتياله النكراء.
الإرث:
لقد ترك ناجي ما يربو على أربعين ألف عمل من الأعمال المتنوعة في مجال الكاريكاتير السياسي، وهي أعمال تبعثرت هنا وهناك بسبب اضطرار ناجي إلى الرحيل أكثر من مرة ومن أكثر من عاصمة ما بين بيروت والكويت ولندن، وكذلك بسبب انتقاله للعمل في أكثر من جريدة أو مجلة.
هناك الأعمال الأصلية، وهي ليست مجموعة حتى الآن. وهناك ما نشر في عشرات الصحف العربية والعالمية، منذ بداية عمله في مجلة (الطليعة)، الكويتية منذ أوائل الستينات حتى يوم اغتياله حيث كان يعمل في جريدة (القبس)، الكويتية. وهناك المعارض الفنية التي أقامها أو شارك بها، وهناك ما لم ينشر من أعمال وظل في (درج التاريخ)، كما يسميّه الشاعر أحمد دحبور، وهناك ما جمعه ناجي بنفسه في كتب خاصة به وعددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة على أية حال.
إن أهمية جمع وتوثيق أعمال ناجي العلي تكمن في أنها تعكس رواية أخرى لتاريخ القضية المعاصر بريشة فنان متمرد معارض أمتهن هذا النوع المشاكس من الفن، وحاول أن يكون صوت من لا صوت لهم، ولسان حال المعذّبين المسحوقين، كما حاول أن يطرح وجهة نظره الخاصة التي اختلفت عن الرواية الرسمية في كثير من الجوانب.
كانت رواية ناجي صادقة وعضوية ومؤشرة والأقرب إلى القلب، ذلك أن هذه الرواية اعتمدت سلاحا مجربا لدى الضعفاء منذ فجر التاريخ، ألا وهو سلاح السخرية. إنها السخرية السوداء. الملتبسة مرة على شكل مأساة ومرة أخرى على شكل ملهاة (صراع الكوميديا والتراجيديا)، اللتان تتبادلان الأدوار في كل مرحلة من مراحل إعادة قراءة التاريخ الذي يكرر نفسه أو هكذا يخيل لنا.
الأثـر:
تحول ناجي العلي حتى في سني حياته إلى مدرسة واضحة الملامح في فن الكاريكاتير الفلسطيني، بل والعربي عموما. كانت هذه المدرسة جزءا من مدرسة عربية أكثر شمولا، أخذت تصارع النظام السياسي الرسمي السائد مستخدمة سلاح السخرية إياه في مقابل مدرسة أخرى سارت (الحيط الحيط)، وابتعدت قدر الإمكان عن السياسة محاولة تجنب غضب المخابرات. كان من رواد المدرسة الأولى التي تركزت في مصر في الأغلب (حجازي)، و(بهجت)، و(جورج بهجوري)، وغيرهم.
استمر ناجي في تدعيم أسس مدرسته في الوقت الذي انكفأت فيه المدرسة المصرية على نفسها إثر ما مارسته مخابرات النظام من أساليب قمع وتشديد على الصحافة وحرية الرأي وبالتحديد في سنوات الثمانينيات.
كان من ملامح مدرسة ناجي اعتماد أسلوب الرسم الصامت في البداية. كان هذا كافيا للوصول إلى قطاع واسع من القراء البسطاء بما في ذلك الأمّيون. وكان من ملامحها كذلك اعتماد شخصيات محددة مستوحاة من واقع المخيم ومنحوتة من طينة أكثر الطبقات الشعبية انسحاقا، فدخلت إلى القلوب بدون استئذان. ثم كان ان اعتمد ناجي حنظلته في زاوية الرسم كأيقونة وشاهد يذكر كما الناقوس بالهدف المرسوم وينذر لدى اقتراب الخطر.
كانت خطوط ناجي بسيطة ومقننة. اعتمد في الغالب على التناقض الصارخ بين الخط الرفيع الانسيابي والمساحة السوداء الثقيلة، كما اعتمد على الخطوط النحيلة المتعاكسة بزوايا قائمة كأسلوب للتظليل وبتركيز على البعد الثالث للرسم، فكانت الرسومات في النهاية لوحات مجسمة معبرة متوازنة من حيث التكوين.
هذا من حيث التشكيل، أما النص فقد لجأ إليه ناجي بعد فترة طويلة من الرسم الصامت بعد أن خرج بنتيجة أن هناك طاقة كبيرة مختزنه لا بد من التعبير عنها بالصراع و(رفع الآذان)، كما قال. وحين خرجت رسومات ناجي عن صمتها كان حديثها مشحونا لاذعا معتمدا على تراث غني من الأمثال والمأثورات الأدبية والشعبية والدينية، حملت عدة أوجه للتأويل.
لاقت رسومات ناجي إعجابا شعبيا متزايدا، مما دفع الصحف العربية إلى التسابق في نشرها وفي أماكن بارزة.
حملت الرسومات الهم الفلسطيني بكل تجلّياته ووجدت لها حيزا واسعا نسبيا في الصحف العربية الواسعة الانتشار.
وعلى الرغم من الحصار الثقافي الخانق الذي وقعت تحته الأرض المحتلة عام 67، ومناطق عام 1948، فإن رسومات ناجي وجدت طريقها إلى الصحف المحلية ضمن ما كان يرشح من الصحف الفلسطينية والعربية الصادرة في قبرص أو أوروبا، عبر البريد المهرب أو عبر الفاكس الذي دخل حديثا. لقد فتح هذا المجال أمام رسومات ناجي أن ترى النور من على صفحات ثلاث صحف يومية (القدس)، و(الميثاق)، المقدسيتين و(الاتحاد)، الحيفاويه الأمر الذي ساعد على تعريف الشعب تحت الاحتلال على ناجي وإلى تأثر الرسامين المحليين بفن وأسلوب مدرسته.
الثـأر:
لا احدا يقر بانتفاء ضرورة محاسبة القتلة بفعل تقادم الجريمة. إن ما تسرب لنا من معلومات في حينه عن جريمة اغتيال ناجي إن الشرطة البريطانية قامت باعتقال اثنين من عملاء ما يعرف بـ (الموساد)، متورطين في الجريمة واكتشفت مخزنا للأسلحة تابعا لهما في مدينة (هاك)، القريبة من لندن لنعرف بعد ذلك أنه تم نقل هذين العميلين إلى إسرائيل بحجة مخالفتهما قوانين الهجرة كي يطوى الملف، إلى هذا الحد تسلل العدو من خلال ثغرة مشؤومة نشأت في تلك الفترة حين برز الانقسام واضحا في الساحة الفلسطينية بين المؤيدين للتسوية والمعارضين لها، بين المدافعين عن شرعية منظمة التحرير والمتحفظين عليها، حيث كان ناجي بأسلوبه اللاذع من أنصار الفريق الثاني.
في تلك الأيام لم يتسع صدر كثير من الكتاب المدافعين عن الشرعية أمام انتقادات ناجي وغيره، حيث شنت حملة شرسة وجارحة بحق ناجي والجماعة الرافضة ولتصل الحملة مستويات من الهجوم لم تصل إليها من قبل.
في هذه الأثناء، كان هناك من يسترق السمع إلى هذا الحوار الانفعالي والمتوتر. وكان هناك من يضع الرصاص في المسدس كما لاحظ وبحق شاعرنا محمود درويش (كان يرسم، كنت أكتب)،... وكان ناجي هو الضحية.
ناجي العلي: في كل يوم ومع كل صباح جديد... نجدد عهد الوفاء والمحبة لك وأنت تقبع غريبا هناك في القبر رقم 230190، في مقبرة (بروك وود)، ليس ببعيد عن عاصمة الضباب...
الضباب الذي سينقشع يوميا عن ظروف قتلك غيلة، كي تأخذ (العدالة النسبية) مجراها...
(العدالة النسبية)، في أن يلاقي القتلة عقابهم... وفي أن يعود ابن (الشجرة) إلى شجرته الأولى...
فلنشارك نحن ايضا بهذا العهد
ولنبدا بتجيمع اعمال الراحل ناجي العلي ,,, وفاءا منا وتقديرا لاستاز الكراكتير
ولمدافعا عن قضيتنا
من اعماله رحمه الله